فصل: تفسير الآيات رقم (81- 95)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 95‏]‏

‏{‏وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ‏(‏81‏)‏ كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ‏(‏82‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ‏(‏83‏)‏ فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا ‏(‏84‏)‏ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ‏(‏85‏)‏ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ‏(‏86‏)‏ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ‏(‏87‏)‏ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ‏(‏88‏)‏ لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ‏(‏89‏)‏ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ‏(‏90‏)‏ أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ‏(‏91‏)‏ وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا ‏(‏92‏)‏ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ‏(‏93‏)‏ لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ‏(‏94‏)‏ وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ‏(‏95‏)‏‏}‏

حكى سبحانه ما كان عليه هؤلاء الكفار الذين تمنوا ما لا يستحقونه، وتألوا على الله سبحانه من اتخاذهم الآلهة من دون الله لأجل يتعززون بذلك‏.‏ قال الهروّي‏:‏ معنى ‏{‏لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً‏}‏‏:‏ ليكونوا لهم أعواناً‏.‏ قال الفراء‏:‏ معناه‏:‏ ليكونوا لهم شفعاء في الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ معناه ليتعززوا بهم من عذاب الله ويمتنعوا بها‏.‏ ‏{‏كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بعبادتهم‏}‏ أي ليس الأمر كما ظنوا وتوهموا، والضمير في الفعل إما للآلهة أي ستجحد هذه الأصنام عبادة الكفار لها يوم ينطقها الله سبحانه، لأنها عند أن عبدوها جمادات لا تعقل ذلك، وإما للمشركين، أي سيجحد المشركون أنهم عبدوا الأصنام، ويدل على الوجه الأوّل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 63‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لكاذبون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 86‏]‏ ويدلّ على الوجه الثاني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏ وقرأ ابن أبي نهيك‏:‏ «كلا» بالتنوين، وروي عنه مع ذلك ضمّ الكاف وفتحها، فعلى الضم هي بمعنى جميعاً، وانتصابها بفعل مضمر، كأنه قال‏:‏ سيكفرون كلا سيكفرون بعبادهم، وعلى الفتح يكون مصدراً لفعل محذوف تقديره‏:‏ كل هذا الرأي كلا، وقراءة الجمهور هي الصواب، وهي حرف ردع وزجر ‏{‏وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً‏}‏ أي تكون هذه الآلهة التي ظنوها عزّاً لهم ضدّاً عليهم، أي ضدّاً للعزّ وضدّ العزّ‏:‏ الذلّ، هذا على الوجه الأوّل، وأما على الوجه الثاني فيكون المشركون للآلهة ضدّاً وأعداء يكفرون بها بعد أن كانوا يحبونها ويؤمنون بها‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين‏}‏ ذكر الزجاج في معنى هذا وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن معناه‏:‏ خلينا بين الكافرين وبين الشياطين فلم نعصمهم منهم ولم نعذهم، بخلاف المؤمنين الذين قيل فيهم‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 65‏]‏‏.‏ الوجه الثاني‏:‏ أنهم أرسلوا عليهم وقيضوا لهم بكفرهم قال‏:‏ ‏{‏وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 36‏]‏ فمعنى الإرسال ها هنا‏:‏ التسليط ومن ذلك قوله سبحانه لإبليس ‏{‏واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 64‏]‏ ويؤيد الوجه الثاني تمام الآية، وهو ‏{‏تَؤُزُّهُمْ أَزّاً‏}‏ فإن الأزّ والهزّ والاستفزاز معناها‏:‏ التحريك والتهييج والإزعاج، فأخبر الله سبحانه أن الشياطين تحرّك الكافرين وتهيجهم وتغويهم، وذلك هو التسليط لها عليهم، وقيل‏:‏ معنى الأزّ‏:‏ الاستعجال، وهو مقارب لما ذكرنا لأن الاستعجال تحريك وتهييج واستفزاز وإزعاج، وسياق هذه الآية لتعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم من حالهم، وللتنبيه له على أن جميع ذلك بإضلال الشياطين وإغوائهم، وجملة‏:‏ ‏{‏تؤزهم أزّاً‏}‏ في محل نصب على الحال، أو مستأنفة على تقدير سؤال يدل عليه المقام، كأنه قيل‏:‏ ماذا تفعل الشياطين بهم‏؟‏

‏{‏فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ‏}‏ بأن تطلب من الله إهلاكهم بسبب تصميمهم على الكفر، وعنادهم للحق، وتمرّدهم عن داعي الله سبحانه‏.‏

ثم علل سبحانه هذا النهي بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً‏}‏ يعني نعدّ الأيام والليالي والشهور والسنين من أعمارهم إلى انتهاء آجالهم‏.‏ وقيل‏:‏ نعدّ أنفاسهم‏.‏ وقيل خطواتهم‏.‏ وقيل‏:‏ لحظاتهم‏.‏ وقيل‏:‏ الساعات‏.‏ وقال قطرب‏:‏ نعدّ أعمالهم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ لا تعجل عليهم فإنما نؤخرهم ليزدادوا إثماً‏.‏

ثم لما قرّر سبحانه أمر الحشر وأجاب عن شبهة منكريه أراد أن يشرح حال المكلفين حينئذٍ، فقال‏:‏ ‏{‏يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً‏}‏ الظرف منصوب بفعل مقدّر، أي اذكر يا محمد يوم الحشر‏.‏ وقيل‏:‏ منصوب بالفعل الذي بعده، ومعنى حشرهم إلى الرحمن‏:‏ حشرهم إلى جنته ودار كرامته، كقوله‏:‏ ‏{‏إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 99‏]‏ والوفد جمع وافد، كالركب جمع راكب، وصحب جمع صاحب، يقال‏:‏ وفد يفد وفداً إذا خرج إلى ملك أو أمر خطير كذا قال الجوهري‏.‏ ‏{‏وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً‏}‏ السوق‏:‏ الحثّ على السير، والورد‏:‏ العطاش قاله الأخفش وغيره‏.‏ وقال الفراء وابن الأعرابي‏:‏ هم المشاة، وقال الأزهري‏:‏ هم المشاة العطاش، كالإبل ترد الماء‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏وردا‏}‏ أي‏:‏ للورد، كقولك‏:‏ جئتك إكراماً، أي للإكرام، وقيل‏:‏ أفراداً‏.‏ قيل‏:‏ ولا تناقض بين هذه الأقوال فهم يساقون مشاة عطاشاً أفراداً، وأصل الورد‏:‏ الجماعة التي ترد الماء من طير أو إبل أو قوم أو غير ذلك‏.‏ والورد الماء الذي يورد‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة‏}‏ مستأنفة لبيان بعض ما يكون في ذلك اليوم من الأمور، والضمير في ‏{‏يملكون‏}‏ راجع إلى الفريقين‏.‏ وقيل‏:‏ للمتقين خاصة‏.‏ وقيل‏:‏ للمجرمين خاصة، والأوّل أولى‏.‏ ومعنى ‏{‏لا يملكون الشفاعة‏}‏‏:‏ أنهم لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم‏.‏ وقيل‏:‏ لا يملك غيرهم أن يشفع لهم، والأوّل أولى ‏{‏إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً‏}‏ هذا الاستثناء متصل على الوجه الأوّل أي لا يملك الفريقان المذكوران الشفاعة إلا من استعدّ لذلك بما يصير به من جملة الشافعين لغيرهم بأن يكون مؤمناً متقياً، فهذا معنى اتخاذ العهد عند الله‏.‏ وقيل‏:‏ معنى اتخاذ العهد أن الله أمره بذلك كقولهم‏:‏ عهد الأمير إلى فلان إذا أمره به‏.‏ وقيل‏:‏ معنى اتخاذ العهد‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله‏.‏ وقيل‏:‏ غير ذلك‏.‏ وعلى الاتصال في هذا الاستثناء يكون محل «من» في ‏{‏من اتخذ‏}‏ الرفع على البدل، أو النصب على أصل الاستثناء‏.‏ وأما على الوجه الثاني فالاستثناء منقطع؛ لأن التقدير‏:‏ لا يملك المجرمون الشفاعة ‏{‏إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً‏}‏ وهم المسلمون‏.‏ وقيل‏:‏ هو متصل على هذا الوجه أيضاً، والتقدير‏:‏ لا يملك المجرمون الشفاعة إلا من كان منهم مسلماً‏.‏

‏{‏وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً‏}‏ قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي‏:‏ «ولداً» بضم الواو وإسكان اللام، وقرأ الباقون في الأربعة المواضع الأربعة في هذه السورة بفتح الواو واللام، وقد قدّمنا الفرق بين القراءتين‏.‏

والجملة مستأنفة لبيان قول اليهود والنصارى ومن يزعم من العرب أن الملائكة بنات الله، وفي قوله‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً‏}‏ التفات من الغيبة إلى الخطاب، وفيه ردّ لهذه المقالة الشنعاء، والإدّ كما قال الجوهري‏:‏ الداهية والأمر الفظيع، وكذلك الأدّة، وجمع الأدّة أدد، يقال‏:‏ أدّت فلاناً الداهية تؤدّه أدا بالفتح‏.‏ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي‏:‏ «أدّاً» بفتح الهمزة، وقرأ الجمهور بالكسر، وقرأ ابن عباس وأبو العالية «آدّاً» مثل مادّاً، وهي مأخوذة من الثقل، يقال‏:‏ أدّه الحمل يؤده‏:‏ إذا أثقله‏.‏ قال الواحدي‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً‏}‏ أي عظيماً في قول الجميع، ومعنى الآية‏:‏ قلتم قولاً عظيماً‏.‏ وقيل‏:‏ الإدّ‏:‏ العجب، والإدّة‏:‏ الشدّة، والمعنى متقارب، والتركيب يدور على الشدّة والثقل‏.‏

‏{‏يَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ‏}‏ قرأ نافع والكسائي وحفص ويحيى بن وثاب «يكاد» بالتحتية، وقرأ الباقون بالفوقية وقرأ نافع وابن كثير وحفص «يتفطرن» بالتاء الفوقية، وقرأ حمزة وابن عامر وأبو عمرو وأبو بكر والمفضل ‏{‏يتفطرن‏}‏ بالتحتية من الانفطار، واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله‏:‏ ‏{‏إِذَا السماء انفطرت‏}‏ ‏[‏الإنفطار‏:‏ 1‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 18‏]‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏ «يتصدّعن» والانفطار والتفطر‏:‏ التشقق ‏{‏وَتَنشَقُّ الأرض‏}‏ أي وتكاد أن تنشق الأرض، وكرر الفعل للتأكيد لأن تتفطرن وتنشق معناهما واحد ‏{‏وَتَخِرُّ الجبال‏}‏ أي تسقط وتنهدم، وانتصاب ‏{‏هَدّاً‏}‏ على أنه مصدر مؤكد؛ لأن الخرور في معناه، أو هو مصدر لفعل مقدّر، أي وتنهد هدّاً، أو على الحال أي مهدودة، أو على أنه مفعول له، أي لأنها تنهد‏.‏ قال الهروي‏:‏ يقال هدني الأمر وهدّ ركني، أي كسرني وبلغ مني‏.‏ قال الجوهري‏:‏ هدّ البناء يهدّه هدّاً كسره وضعضعه، وهدّته المصيبة أوهنت ركنه، وانهدّ الجبل، أي انكسر، والهدّة‏:‏ صوت وقع الحائط، كما قال ابن الأعرابي، ومحل ‏{‏أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً‏}‏ الجرّ بدلاً من الضمير في ‏{‏منه‏}‏‏.‏ وقال الفراء‏:‏ في محل نصب بمعنى لأن دعوا‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ هو في محل خفض بتقدير الخافض‏.‏ وقيل‏:‏ في محل رفع على أنه فاعل ‏{‏هدّاً‏}‏‏.‏ والدعاء بمعنى التسمية، أي سموا للرحمن ولداً، أو بمعنى النسبة أي نسبوا له ولداً‏.‏

‏{‏وَمَا يَنبَغِى للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً‏}‏ أي لا يصلح له ولا يليق به لاستحالة ذلك عليه؛ لأن الولد يقتضي الجنسية والحدوث، والجملة في محل نصب على الحال، أي قالوا اتخذ الرحمن ولداً، أو أن دعوا للرحمن ولداً، والحال أنه ما يليق به سبحانه ذلك‏.‏ ‏{‏إِن كُلُّ مَن فِي السموات والأرض‏}‏ أي ما كل من في السموات والأرض ‏{‏إِلا‏}‏ وهو ‏{‏آتِي‏}‏ الله يوم القيامة مقرّاً بالعبودية خاضعاً ذليلاً كما قال‏:‏ ‏{‏وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخرين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 87‏]‏ أي صاغرين‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الخلق كلهم عبيده فكيف يكون واحد منهم ولداً له‏؟‏ وقرى «آتٍ» على الأصل‏.‏

‏{‏لَّقَدْ أحصاهم‏}‏ أي حصرهم وعلم عددهم ‏{‏وَعَدَّهُمْ عَدّاً‏}‏ أي عدّ أشخاصهم بعد أن حصرهم فلا يخفى عليه أحد منهم‏.‏ ‏{‏وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً‏}‏ أي كل واحد منهم يأتيه يوم القيامة فرداً لا ناصر له ولا مال معه، كما قال سبحانه ‏{‏يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 88‏]‏‏.‏

وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً‏}‏ قال‏:‏ أعواناً‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عنه ‏{‏ضِدّاً‏}‏ قال‏:‏ حسرة‏.‏ وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال‏:‏ ‏{‏تَؤُزُّهُمْ أَزّاً‏}‏‏:‏ تغويهم إغواءً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏تَؤُزُّهُمْ أَزّاً‏}‏ قال‏:‏ تحرّض المشركين على محمد وأصحابه‏.‏ وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال‏:‏ تزعجهم إزعاجاً إلى معاصي الله‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَفْداً‏}‏ قال‏:‏ ركباناً‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن أبي هريرة ‏{‏وَفْداً‏}‏ قال‏:‏ على الإبل‏.‏ وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق‏:‏ راغبين وراهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير وأربعة على بعير، وعشرة على بعير، وتحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا» والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً‏.‏

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وِرْداً‏}‏ قال‏:‏ عطاشاً‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن أبي هريرة مثله‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً‏}‏ قال‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله، وتبرأ من الحول والقوّة، ولا يرجو إلا الله‏.‏ وأخرج ابن مردويه عنه في الآية قال‏:‏ من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قرأ ‏{‏إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً‏}‏ قال‏:‏ إن الله يقول يوم القيامة‏:‏ من كان له عندي عهد فليقم، فلا يقوم إلا من قال هذا في الدنيا، قولوا‏:‏ اللّهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك في الحياة الدنيا أنك إن تكلني إلى عملي تقربني من الشرّ وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعله لي عندك عهداً تؤديه إليّ يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«من أدخل على مؤمن سروراً فقد سرّني، ومن سرّني فقد اتخذ عند الرحمن عهداً، ومن اتخذ عند الرحمن عهداً فلا تمسه النار، إن الله لا يخلف الميعاد» وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة؛ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من جاءنا بالصلوات الخمس يوم القيامة قد حافظ على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها لم ينقص منها شيئاً جاء وله عند الله عهد أن لا يعذبه، ومن جاء قد انتقص منهم شيئاً فليس له عند الله عهد، إن شاء رحمه وإن شاء عذبه»

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً‏}‏ قال‏:‏ قولاً عظيماً، وفي قوله‏:‏ ‏{‏يَكَادُ السموات‏}‏ قال‏:‏ إن الشرك فزعت منه السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين، وكادت تزول منه لعظمة الله سبحانه، وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك، كذلك يرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين، وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً‏}‏ قال‏:‏ هدماً‏.‏ وأخرج ابن المبارك وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة، وأحمد في الزهد، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة، والطبراني والبيهقي في الشعب من طريق عون عن ابن مسعود قال‏:‏ إن الجبل لينادي الجبل باسمه، يا فلان، هل مرّ بك اليوم أحد ذكر الله‏؟‏ فإذا قال‏:‏ نعم، استبشر‏.‏ قال عون‏:‏ أفيسمعن الزور إذا قيل ولا يسمعن الخير‏؟‏ هنّ للخير أسمع، وقرأ‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً‏}‏ الآيات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 98‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ‏(‏96‏)‏ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ‏(‏97‏)‏ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا ‏(‏98‏)‏‏}‏

ذكر سبحانه من أحوال المؤمنين بعض ما خصهم به بعد ذكره لقبائح الكافرين فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً‏}‏ أي حباً في قلوب عباده، يجعله لهم من دون أن يطلبوه بالأسباب التي توجب ذلك، كما يقذف في قلوب أعدائهم الرعب، والسين في ‏{‏سيجعل‏}‏ للدلالة على أن ذلك لم يكن من قبل وأنه مجعول من بعد نزول الآية‏.‏ وقرئ «ودّاً» بكسر الواو، والجمهور من السبعة وغيرهم على الضم‏.‏ ثم ذكر سبحانه تعظيم القرآن خصوصاً هذه السورة لاشتمالها على التوحيد والنبوّة، وبيان حال المعاندين فقال‏:‏ ‏{‏فَإِنَّمَا يسرناه بِلَسَانِكَ‏}‏ أي يسرنا القرآن بإنزالنا له على لغتك، وفصلناه وسهلناه، والباء بمعنى على، والفاء لتعليل كلام ينساق إليه النظم كأنه قيل‏:‏ بلغ هذا المنزل أو بشر به أو أنذر ‏{‏فَإِنَّمَا يسرناه‏}‏ الآية‏.‏ ثم علل ما ذكره من التيسير فقال‏:‏ ‏{‏لِتُبَشّرَ بِهِ المتقين‏}‏ أي المتلبسين بالتقوى، المتصفين بها ‏{‏وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً‏}‏ اللدّ‏:‏ جمع الألد، وهو الشديد الخصومة‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَدُّ الخصام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 204‏]‏‏.‏ قال الشاعر‏:‏

أبيت نجياً للهموم كأنني *** أخاصم أقواماً ذوي جدل لدّاً

وقال أبو عبيدة‏:‏ الألدّ الذي لا يقبل الحق ويدّعي الباطل‏.‏ وقيل‏:‏ اللدّ‏:‏ الصم‏.‏ وقيل‏:‏ الظلمة ‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ‏}‏ أي من أمة وجماعة من الناس، وفي هذا وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بهلاك الكافرين ووعيد لهم ‏{‏هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ‏}‏ هذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها، أي هل تشعر بأحد منهم أو تراه ‏{‏أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً‏}‏ الركز‏:‏ الصوت الخفي، ومنه ركز الرمح‏:‏ إذا غيب طرفه في الأرض‏.‏ قال طرفة‏:‏

وصادفتها سمع التوجس للسرى *** لركز خفي أو لصوت مفند

وقال ذو الرمة‏:‏

إذا توجس ركزاً مقفر ندس *** بنبأة الصوت ما في سمعه كذب

أي في استماعه كذب بل هو صادق الاستماع، والندس‏:‏ الحاذق، والنبأة‏:‏ الصوت الخفي‏.‏

وقال اليزيدي وأبو عبيد‏:‏ الركز‏:‏ ما لا يفهم من صوت أو حركة‏.‏

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف؛ أنه لما هاجر إلى المدينة وجد في نفسه على فراق أصحابه بمكة منهم شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف، فأنزل الله ‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ الآية‏.‏ قال ابن كثير‏:‏ وهو خطأ، فإن السورة مكية بكمالها لم ينزل شيء منها بعد الهجرة ولم يصح سند ذلك‏.‏ وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ نزلت في علي بن أبي طالب ‏{‏إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً‏}‏ قال‏:‏ محبة في قلوب المؤمنين‏.‏

وأخرج ابن مردويه والديلمي عن البراء قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ‏:‏ «قل اللّهم اجعل لي عندك عهداً، واجعل لي عندك ودّاً، واجعل لي في صدور المؤمنين مودة»، فأنزل الله الآية في عليّ‏.‏ وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس ‏{‏وُدّاً‏}‏ قال‏:‏ محبة في الناس في الدنيا‏.‏ وأخرج الحكيم الترمذي وابن مردويه عن عليّ قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله‏:‏ ‏{‏سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً‏}‏ ما هو‏؟‏ قال‏:‏ «المحبة الصادقة في صدور المؤمنين» وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا أحب الله عبداً نادى جبريل‏:‏ إني قد أحببت فلاناً فأحبه، فينادي في السماء، ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض فذلك قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً‏}‏ وإذا أبغض الله عبداً نادى جبريل إني قد أبغضت فلاناً، فينادي في أهل السماء، ثم ينزل له البغضاء في الأرض» والأحاديث والآثار في هذا الباب كثيرة‏.‏

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً‏}‏ قال‏:‏ فجاراً‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن قال‏:‏ صماً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ‏}‏ قال‏:‏ هل ترى منهم من أحد‏.‏ وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏رِكْزاً‏}‏ قال‏:‏ صوتاً‏.‏

سورة طه

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 16‏]‏

‏{‏طه ‏(‏1‏)‏ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى ‏(‏2‏)‏ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ‏(‏3‏)‏ تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا ‏(‏4‏)‏ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ‏(‏5‏)‏ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ‏(‏6‏)‏ وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ‏(‏7‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ‏(‏8‏)‏ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ‏(‏9‏)‏ إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ‏(‏10‏)‏ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى ‏(‏11‏)‏ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ‏(‏12‏)‏ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ‏(‏13‏)‏ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ‏(‏14‏)‏ إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ‏(‏15‏)‏ فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏طه‏}‏ قرأ بإمالة الهاء وفتح الطاء أبو عمرو وابن أبي إسحاق، وأمالهما جميعاً أبو بكر وحمزة والكسائي والأعمش‏.‏ وقرأهما أبو جعفر وشيبة ونافع بين اللفظين، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وقرأ الباقون بالتفخيم‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ وهي كلها لغات صحيحة فصيحة‏.‏ وقال النحاس‏:‏ لا وجه للإمالة عند أكثر أهل العربية لعلتين‏:‏ الأولى أنه ليس هاهنا ياء ولا كسرة حتى تكون الإمالة، والعلة الثانية أن الطاء من موانع الإمالة‏.‏

وقد اختلف أهل العلم في معنى هذه الكلمة على أقوال‏:‏ الأوّل أنها من المتشابه الذي لا يفهم المراد به‏.‏ والثاني‏:‏ أنها بمعنى‏:‏ يا رجل في لغة عكل، وفي لغة عكّ‏.‏ قال الكلبي‏:‏ لو قلت لرجل من عك‏:‏ يا رجل لم يجب حتى تقول‏:‏ طه، وأنشد ابن جرير في ذلك‏:‏

دعوت بطه في القتال فلم يجب *** فخفت عليه أن يكون موائلا

ويروى مزايلاً وقيل‏:‏ إنها في لغة عكّ بمعنى‏:‏ يا حبيبي‏.‏ وقال قطرب‏:‏ هي كذلك في لغة طيّ أي بمعنى‏:‏ يا رجل، وكذلك قال الحسن وعكرمة وقيل‏:‏ هي كذلك في اللغة السريانية، حكاه المهدوي‏.‏ وحكى ابن جرير أنها كذلك في اللغة النبطية، وبه قال السديّ وسعيد بن جبير‏.‏ وحكى الثعلبي‏:‏ عن عكرمة أنها كذلك في لغة الحبشة، ورواه عن عكرمة، ولا مانع من أن تكون هذه الكلمة موضوعة لذلك المعنى في تلك اللغات كلها إذا صح النقل‏.‏ القول الثالث‏:‏ أنها اسم من أسماء الله سبحانه‏.‏ والقول الرابع‏:‏ أنها اسم للنبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ القول الخامس‏:‏ أنها اسم للسورة‏.‏ القول السادس‏:‏ أنها حروف مقطعة يدل كل واحد منها على معنى‏.‏ ثم اختلفوا في هذه المعاني التي تدل عليها هذه الحروف على أقوال كلها متكلفة متعسفة‏.‏ القول السابع‏:‏ أن معناها‏:‏ طوبى لمن اهتدى‏.‏ القول الثامن‏:‏ أن معناها‏:‏ طأ الأرض يا محمد‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتحمل مشقة الصلاة حتى كادت قدماه تتورم ويحتاج إلى التروّح، فقيل له‏:‏ طأ الأرض، أي لا تتعب حتى تحتاج إلى التروّح‏.‏ وحكى القاضي عياض في الشفاء عن الربيع بن أنس قال‏:‏ كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏طه‏}‏ يعني‏:‏ طأ الأرض يا محمد، وحكي عن الحسن البصري أنه قرأ‏:‏ «طه» على وزن دع، أمر بالوطء، والأصل‏:‏ طأ، فقلبت الهمزة هاء‏.‏ وقد حكى الواحدي عن أكثر المفسرين أن هذه الكلمة معناها‏:‏ يا رجل، يريد النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ وهو قول الحسن وعكرمة وسعيد ابن جبير والضحّاك، وقتادة ومجاهد وابن عباس في رواية عطاء والكلبي غير أن بعضهم يقول‏:‏ هي بلسان الحبشة والنبطية والسريانية، ويقول الكلبي‏:‏ هي بلغة عك‏.‏

قال ابن الأنباري‏:‏ ولغة قريش وافقت تلك اللغة في هذا المعنى؛ لأن الله سبحانه لم يخاطب نبيه بلسان غير قريش‏.‏ انتهى‏.‏

وإذا تقرّر أنها لهذا المعنى في لغة من لغات العرب كانت ظاهرة المعنى واضحة الدلالة خارجة عن فواتح السور التي قدّمنا بيان كونها من المتشابه في فاتحة سورة البقرة، وهكذا إذا كانت لهذا المعنى في لغة من لغات العجم واستعملتها العرب في كلامها في ذلك المعنى كسائر الكلمات العجمية التي استعملتها العرب الموجودة في الكتاب العزيز، فإنها صارت بذلك الاستعمال من لغة العرب‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان لتشقى‏}‏ مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يعتريه من جهة المشركين من التعب، والشقاء يجيء في معنى التعب‏.‏ قال ابن كيسان‏:‏ وأصل الشقاء في اللغة‏:‏ العناء والتعب، ومنه قول الشاعر‏:‏

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله *** وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم

والمعنى‏:‏ ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا، فهو كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 6‏]‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ بعض النحويين يقول‏:‏ هذه اللام في‏:‏ ‏{‏لتشقى‏}‏ لام النفي، وبعضهم يقول‏:‏ لام الجحود‏.‏ وقال ابن كيسان‏:‏ هي لام الخفض، وهذا التفسير للآية هو على قول من قال‏:‏ إن طه كسائر فواتح السور التي ذكرت تعديداً لأسماء الحروف، وإن جعلت اسماً للسورة كان قوله‏:‏ ‏{‏مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان لتشقى‏}‏ خبراً عنها، وهي في موضع المبتدأ، وأما على قول من قال‏:‏ إن معناها‏:‏ يا رجل، أو بمعنى الأمر بوطء الأرض، فتكون الجملة مستأنفة لصرفه صلى الله عليه وسلم عما كان عليه من المبالغة في العبادة‏.‏

وانتصاب ‏{‏إِلاَّ تَذْكِرَةً‏}‏ على أنه مفعول له لأنزلنا كقولك‏:‏ ما ضربتك للتأديب إلا إشفاقاً عليك‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هو بدل من لتشقى، أي‏:‏ ما أنزلناه إلا تذكرة‏.‏ وأنكره أبو علي الفارسي من جهة أن التذكرة ليست بشقاء، قال‏:‏ وإنما هو منصوب على المصدرية، أي أنزلناه لتذكر به تذكرة، أو على المفعول من أجله، أي ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى به، ما أنزلناه إلا للتذكرة‏.‏

وانتصاب ‏{‏تَنزِيلاً مّمَّنْ خَلَق الأرض‏}‏ على المصدرية، أي أنزلناه تنزيلاً‏.‏ وقيل‏:‏ بدل من قوله ‏{‏تذكرة‏}‏ وقيل‏:‏ هو منصوب على المدح‏.‏ وقيل‏:‏ منصوب ب ‏{‏يخشى‏}‏ أي‏:‏ يخشى تنزيلاً من الله على أنه مفعول به‏.‏ وقيل‏:‏ منصوب على الحال بتأوله باسم الفاعل‏.‏ وقرأ أبو حيوة الشامي‏:‏ «تنزيل» بالرفع على معنى هذا تنزيل؛ و‏{‏ممن خلق‏}‏ متعلق ب ‏{‏تنزيلاً‏}‏ أو بمحذوف هو صفة له، وتخصيص خلق الأرض والسموات؛ لكونهما أعظم ما يشاهده العباد من مخلوقاته عزّ وجلّ، والعلى‏:‏ جمع العليا، أي المرتفعة كجمع كبرى وصغرى على كبر وصغر‏.‏

ومعنى الآية‏:‏ إخبار العباد عن كمال عظمته سبحانه وعظيم جلاله‏.‏

وارتفاع ‏{‏‏;‏لرحمن‏}‏ على أنه خبر مبتدأ محذوف كما قال الأخفش، ويجوز أن يكون مرتفعاً على المدح أو على الابتداء‏.‏ وقرئ بالجر، قال الزجاج‏:‏ على البدل ممن، وجوز النحاس أن يكون مرتفعاً على البدل من المضمر في خلق، وجملة ‏{‏عَلَى العرش استوى‏}‏ في محل رفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف، أو على أنها خبر الرحمن عند من جعله مبتدأ‏.‏ قال أحمد بن يحيى‏:‏ قال ثعلب‏:‏ الاستواء‏:‏ الإقبال على الشيء، وكذا قال الزجاج والفراء‏.‏ وقيل‏:‏ هو كناية عن الملك والسلطان، والبحث في تحقيق هذا يطول، وقد تقدّم البحث عنه في الأعراف‏.‏ والذي ذهب إليه أبو الحسن الأشعري أنه سبحانه مستوٍ على عرشه بغير حدّ ولا كيف، وإلى هذا القول سبقه الجماهير من السلف الصالح الذي يمرون الصفات كما وردت من دون تحريف ولا تأويل‏.‏

‏{‏لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ أي أنه مالك كل شيء ومدبره ‏{‏وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ من الموجودات ‏{‏وَمَا تَحْتَ الثرى‏}‏ الثرى في اللغة‏:‏ التراب النديّ، أي ما تحت التراب من شيء‏.‏ قال الواحدي‏:‏ والمفسرون يقولون‏:‏ إنه سبحانه أراد الثرى الذي تحت الصخرة التي عليها الثور الذي تحت الأرض ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله سبحانه ‏{‏وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى‏}‏ الجهر بالقول‏:‏ هو رفع الصوت به، والسرّ‏:‏ ما حدّث به الإنسان غيره وأسرّه إليه، والأخفى من السرّ‏:‏ هو ما حدّث به الإنسان نفسه وأخطره بباله‏.‏ والمعنى‏:‏ إن تجهر بذكر الله ودعائه فاعلم أنه غنيّ عن ذلك، فإنه يعلم السرّ وما هو أخفى من السرّ، فلا حاجة لك إلى الجهر بالقول، وفي هذا معنى النهي عن الجهر كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 205‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ السر ما أسرّ الإنسان في نفسه، والأخفى منه هو ما خفي على ابن آدم مما هو فاعله وهو لا يعلمه‏.‏ وقيل‏:‏ السرّ‏:‏ ما أضمره الإنسان في نفسه، والأخفى منه ما لم يكن ولا أضمره أحد، وقيل‏:‏ السرّ سرّ الخلائق، والأخفى منه‏:‏ سرّ الله عزّ وجلّ، وأنكر ذلك ابن جرير وقال‏:‏ إن الأخفى‏:‏ ما ليس في سرّ الإنسان وسيكون في نفسه‏.‏

ثم ذكر أن الموصوف بالعبادة على الوجه المذكور هو الله سبحانه المنزه عن الشريك المستحق لتسميته بالأسماء الحسنى فقال‏:‏ ‏{‏الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الأسماء الحسنى‏}‏ فالله خبر مبتدأ محذوف، أي الموصوف بهذه الصفات الكمالية الله، وجملة‏.‏ ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏ مستأنفة لبيان اختصاص الإلهية به سبحانه، أي لا إله في الوجود إلا هو، وهكذا جملة‏:‏ ‏{‏له الأسماء الحسنى‏}‏ مبينة لاستحقاقه تعالى للأسماء الحسنى، وهي التسعة والتسعون التي ورد بها الحديث الصحيح‏.‏

وقد تقدم بيانها في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَللَّهِ الأسماء الحسنى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 180‏]‏‏.‏ من سورة الأعراف والحسنى تأنيث الأحسن، والأسماء مبتدأ وخبرها الحسنى‏.‏ ويجوز أن يكون الله مبتدأ وخبره الجملة التي بعده، ويجوز أن يكون بدلاً من الضمير في يعلم‏.‏ ثم قرّر سبحانه أمر التوحيد بذكر قصة موسى المشتملة على القدرة الباهرة، والخبر الغريب، فقال‏:‏ ‏{‏وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى‏}‏ الاستفهام للتقرير، ومعناه‏:‏ أليس قد أتاك حديث موسى‏.‏ وقيل‏:‏ معناه قد أتاك حديث موسى‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ لم يكن قد أتاه حديث موسى إذ ذاك‏.‏ وفي سياق هذه القصة تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم لما يلاقيه من مشاق أحكام النبوّة، وتحمل أثقالها ومقاساة خطوبها، وأن ذلك شأن الأنبياء قبله‏.‏ والمراد بالحديث القصة الواقعة لموسى‏.‏ و‏{‏إِذْ رَأَى نَاراً‏}‏ ظرف للحديث‏.‏ وقيل‏:‏ العامل فيه مقدر، أي اذكر‏.‏ وقيل‏:‏ يقدر مؤخراً أي حين رأى ناراً كان كيت وكيت، وكانت رؤيته للنار في ليلة مظلمة لما خرج مسافراً إلى أمه بعد استئذانه لشعيب فلما رآها ‏{‏قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا‏}‏ والمراد بالأهل هنا‏:‏ امرأته، والجمع لظاهر لفظ الأهل أو للتفخيم؛ وقيل‏:‏ المراد بهم المرأة والولد والخادم، ومعنى ‏{‏امكثوا‏}‏‏:‏ أقيموا مكانكم، وعبر بالمكث دون الإقامة؛ لأن الإقامة تقتضي الدوام، والمكث ليس كذلك‏.‏ وقرأ حمزة‏:‏ «لأهله» بضم الهاء، وكذا في القصص‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا على لغة من قال‏:‏ مررت بهو يا رجل، فجاء به على الأصل وهو جائز، إلا أن حمزة خالف أصله في هذين الموضعين خاصة‏.‏ ‏{‏إِنّي آنَسْتُ نَاراً‏}‏ أي أبصرت، يقال‏:‏ آنست الصوت سمعته، وآنست الرجل‏:‏ أبصرته‏.‏ وقيل‏:‏ الإيناس‏:‏ الإبصار البين‏.‏ وقيل‏:‏ الإيناس مختص بإبصار ما يؤنس‏.‏ والجملة تعليل للأمر بالمكث، ولما كان الإتيان بالقبس، ووجود الهدى متوقعين بني الأمر على الرجاء، فقال‏:‏ ‏{‏لَّعَلّي آتِيكُمْ مّنْهَا بِقَبَسٍ‏}‏ أي أجيئكم من النار بقبس‏.‏ والقبس‏:‏ شعلة من النار، وكذا المقباس، يقال‏:‏ قبست منه ناراً أقبس ناراً قبساً فأقبسني، أي أعطاني وكذا اقتبست‏.‏ قال اليزيدي‏:‏ أقبست الرجل علماً وقبسته ناراً، فإن كنت طلبتها له قلت‏:‏ أقبسته‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ أقبسته ناراً وعلماً سواء، قال‏:‏ وقبسته أيضاً فيهما‏.‏ ‏{‏أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى‏}‏ أي هادياً يهديني إلى الطريق ويدلني عليها‏.‏ قال الفراء‏:‏ أراد هادياً، فذكره بلفظ المصدر، أو عبر بالمصدر لقصد المبالغة على حذف المضاف، أي ذا هدى، وكلمة «أو» في الموضعين لمنع الخلوّ دون الجمع، وحرف الاستعلاء للدلالة على أن أهل النار مستعلون على أقرب مكان إليها‏.‏

‏{‏فَلَمَّا أتاها نُودِيَ‏}‏ أي‏:‏ فلما أتى النار التي آنسها ‏{‏نُودِيَ‏}‏ من الشجرة، كما هو مصرّح بذلك في سورة القصص، أي من جهتها، ومن ناحيتها ‏{‏نُودِيَ ياموسى إِنّي أَنَاْ رَبُّكَ‏}‏ أي نودي، فقيل‏:‏ يا موسى‏.‏

وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبو جعفر وابن محيصن وحميد واليزيدي‏:‏ «أني» بفتح الهمزة، وقرأ الباقون بكسرها، أي بأني‏.‏ ‏{‏فاخلع نَعْلَيْكَ‏}‏ أمره الله سبحانه بخلع نعليه؛ لأن ذلك أبلغ في التواضع، وأقرب إلى التشريف والتكريم وحسن التأدب‏.‏ وقيل‏:‏ إنهما كانا من جلد حمار غير مدبوغ‏.‏ وقيل‏:‏ معنى الخلع للنعلين‏:‏ تفريغ القلب من الأهل والمال، وهو من بدع التفاسير، ثم علل سبحانه الأمر بالخلع فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى‏}‏ المقدّس‏:‏ المطهر‏.‏ والقدس‏:‏ الطهارة‏.‏ والأرض المقدّسة‏:‏ المطهرة؛ سميت بذلك؛ لأن الله أخرج منها الكافرين وعمرها بالمؤمنين، و‏{‏طوى‏}‏ اسم للوادي‏.‏ قال الجوهري‏:‏ وطوى‏:‏ اسم موضع بالشام يكسر طاؤه ويضم، يصرف ولا يصرف، فمن صرفه جعله اسم وادٍ ومكان وجعله نكرة ومن لم يصرفه جعله بلدة وبقعة وجعله معرفة، وقرأ عكرمة‏:‏ «طوى» بكسر الطاء، وقرأ الباقون بضمها‏.‏ وقيل‏:‏ إن طوى كثنى من الطي مصدر لنودي، أو للمقدس، أي نودي نداءين، أو قدس مرة بعد أخرى‏.‏

‏{‏وَأَنَا اخترتك‏}‏ قرأ أهل المدينة، وأهل مكة وأبو عمرو وابن عامر وعاصم والكسائي ‏{‏وأنا اخترتك‏}‏ بالإفراد‏.‏ وقرأ حمزة‏:‏ «وإنا اخترناك» بالجمع‏.‏ قال النحاس‏:‏ والقراءة الأولى أولى من جهتين‏:‏ إحداهما أنها أشبه بالخط، والثانية أنها أولى بنسق الكلام لقوله‏:‏ ‏{‏ياموسى إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ‏}‏ ومعنى ‏{‏اخترتك‏}‏‏:‏ اصطفيتك للنبوّة والرسالة، والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فاستمع لِمَا يُوحَى‏}‏ لترتيب ما بعدها على ما قبلها و«ما» موصولة أو مصدرية، أي فاستمع للذي يوحى إليك، أو للوحي، وجملة ‏{‏إِنَّنِى أَنَا الله‏}‏ بدل من ما في‏:‏ ‏{‏لما يوحى‏}‏‏.‏ ثم أمره سبحانه بالعبادة، فقال‏:‏ ‏{‏فاعبدنى‏}‏ والفاء هنا كالفاء التي قبلها؛ لأن اختصاص الإلهية به سبحانه موجب لتخصيصه بالعبادة ‏{‏وأقم الصلاة لذكري‏}‏ خصّ الصلاة بالذكر مع كونها داخلة تحت الأمر بالعبادة، لكونها أشرف طاعة وأفضل عبادة، وعلل الأمر بإقامة الصلاة بقوله ‏{‏لذكري‏}‏ أي لتذكرني فإن الذكر الكامل لا يتحقق إلا في ضمن العبادة والصلاة، أو المعنى‏:‏ لتذكرني فيهما لاشتمالهما على الأذكار، أو المعنى‏:‏ أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ لأذكرك بالمدح في عليين، فالمصدر على هذا يحتمل الإضافة إلى الفاعل أو إلى المفعول‏.‏

وجملة ‏{‏إِنَّ الساعة ءَاتِيَةٌ‏}‏ تعليل لما قبلها من الأمر، أي إن الساعة التي هي وقت الحساب والعقاب آتية، فاعمل الخير من عبادة الله والصلاة‏.‏

ومعنى ‏{‏أَكَادُ أُخْفِيهَا‏}‏‏:‏ مختلف فيه‏.‏ قال الواحدي‏:‏ قال أكثر المفسرين‏:‏ أخفيها من نفسي، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة‏.‏ وقال المبرد وقطرب‏:‏ هذا على عادة مخاطبة العرب يقولون إذا بالغوا في كتمان الشيء‏:‏ كتمته حتى من نفسي، أي لم أطلع عليه أحداً؛ ومعنى الآية‏:‏ أن الله بالغ في إخفاء الساعة، فذكره بأبلغ ما تعرفه العرب‏.‏

وقد روي عن سعيد بن جبير أنه قرأ‏:‏ «أخفيها» بفتح الهمزة، ومعناه‏:‏ أظهرها‏.‏ وكذا روى أبو عبيد عن الكسائي عن محمد بن سهل عن وفاء بن إياس عن سعيد ابن جبير‏.‏ قال النحاس‏:‏ وليس لهذه الرواية طريق غير هذا‏.‏ قال القرطبي‏:‏ وكذا رواه ابن الأنباري في كتاب الردّ قال‏:‏ حدّثني أبي، حدّثنا محمد بن الجهم، حدثنا الفراء حدثنا الكسائي فذكره‏.‏ قال النحاس‏:‏ وأجود من هذا الإسناد ما رواه يحيى القطان عن الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير أنه قرأ ‏{‏أخفيها‏}‏ بضم الهمزة‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ قال الفراء‏:‏ ومعنى قراءة الفتح‏:‏ أكاد أظهرها، من خفيت الشيء‏:‏ إذا أظهرته أخفيه‏.‏ قال القرطبي‏:‏ وقد قال بعض اللغويين‏:‏ يجوز أن يكون ‏{‏أخفيها‏}‏ بضم الألف معناه‏:‏ أظهرها؛ لأنه يقال‏:‏ خفيت الشيء وأخفيته من حروف الأضداد يقع على الستر والإظهار‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ خفيت وأخفيت بمعنى واحد‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا حسن، وقد أنشد الفراء وسيبويه ما يدل على أن معنى أخفاه أظهر، وذلك قول امرئ القيس‏:‏

فإن تكتموا الداء لا نخفه *** وإن تبعثوا الحرب لا نقعد

أي‏:‏ وإن تكتموا الداء لا نظهره‏.‏ وقد حكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب أنه بضم النون من نخفه، وقال‏:‏ امرؤ القيس‏:‏

خفاهن من أنفاقهن كأنما *** خفاهن ودق من عشيّ مُجَلَّب

أي أظهرهن‏.‏ وقد زيف النحاس هذا القول وقال‏:‏ ليس المعنى على أظهرها، ولا سيما و«أخفيها» قراءة شاذة، فكيف تردّ القراءة الصحيحة الشائعة‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ في الآية تفسير آخر، وهو أن الكلام ينقطع على‏:‏ ‏{‏أكاد‏}‏ وبعده مضمر، أي أكاد آتي بها، ووقع الابتداء بأخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى، ومثله قول عمير بن ضابئ البرجمي‏:‏

هممت ولم أفعل وكدت وليتني *** تركت على عثمان تبكي حلائله

أي وكدت أفعل‏.‏ واختار هذا النحاس‏.‏ وقال أبو عليّ الفارسي‏:‏ هو من باب السلب وليس من الأضداد، ومعنى أخفيها‏:‏ أزيل عنها خفاءها، وهو سترها، ومن هذا قولهم‏:‏ أشكيته، أي أزلت شكواه‏.‏ وحكى أبو حاتم عن الأخفش أن أكاد زائدة للتأكيد، قال‏:‏ ومثله ‏{‏إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 40‏]‏، ومثله قول الشاعر‏:‏

سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه *** فما أن يكاد قرنه يتنفس

قال‏:‏ والمعنى‏:‏ أكاد أخفيها؛ أي أقارب ذلك، لأنك إذا قلت‏:‏ كاد زيد يقوم، جاز أن يكون قام وأن يكون لم يقم، ودلّ على أنه قد أخفاها بدلالة غير هذه الآية على هذا‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى‏}‏ متعلق بآتية، أو بأخفيها، و«ما» مصدرية، أي لتجزى كل نفس بسعيها‏.‏ والسعي وإن كان ظاهراً في الأفعال، فهو هنا يعمّ الأفعال والتروك؛ للقطع بأن تارك ما يجب عليه معاقب بتركه مأخوذ به‏.‏

‏{‏فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا‏}‏ أي لا يصرفنك عن الإيمان بالساعة، والتصديق بها، أو عن ذكرها ومراقبتها ‏{‏مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا‏}‏ من الكفرة، وهذا النهي وإن كان للكافر بحسب الظاهر، فهو في الحقيقة نهي له صلى الله عليه وسلم عن الانصداد، أو عن إظهار اللين للكافرين فهو من باب‏:‏ لا أرينك ها هنا، كما هو معروف‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في‏:‏ ‏{‏عنها‏}‏ للصلاة وهو بعيد، وقوله‏:‏ ‏{‏واتبع هَوَاهُ‏}‏ معطوف على ما قبله، أي من لا يؤمن، ومن اتبع هواه أي هوى نفسه بالانهماك في اللذات الحسية الفانية ‏{‏فتردى‏}‏ أي فتهلك؛ لأن انصدادك عنها بصدّ الكفارين لك مستلزم للهلاك ومستتبع له‏.‏

وقد أخرج ابن المنذر وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، وابن عساكر عن ابن عباس؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أوّل ما نزل عليه الوحي كان يقوم على صدر قدميه إذا صلى، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏طه * مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان لتشقى‏}‏‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه قال‏:‏ قالوا لقد شقي هذا الرجل بربه، فأنزل الله هذه الآية‏.‏ وأخرج ابن عساكر عنه أيضاً قال‏:‏ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يربط نفسه بحبل لئلا ينام، فأنزل الله هذه الآية»‏.‏ وأخرج البزار عن عليّ قال‏:‏ «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يراوح بين قدميه يقوم على كل رجل حتى نزلت‏:‏ ‏{‏مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان لتشقى‏}‏» وحسن السيوطي إسناده‏.‏ وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً بأطول منه‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما قرأ القرآن إذا صلى، فقام على رجل واحدة، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏طه‏}‏ برجليك فما أنزلنا عليك القرآن لتشقى‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عنه في قوله‏:‏ ‏{‏طه‏}‏ قال‏:‏ يا رجل‏.‏ وأخرج الحارث بن أبي أسامة وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ ‏{‏طه‏}‏ بالنبطية، أي طأ يا رجل‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال‏:‏ هو كقولك‏:‏ اقعد‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه قال‏:‏ ‏{‏طه‏}‏ بالنبطية‏:‏ يا رجل‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه قال‏:‏ ‏{‏طه‏}‏‏:‏ يا رجل بالسريانية‏.‏ وأخرج الحاكم عنه أيضاً قال‏:‏ ‏{‏طه‏}‏ هو كقولك‏:‏ يا محمد بلسان الحبش‏.‏ وفي هذه الروايات عن ابن عباس اختلاف وتدافع‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن أبي الطفيل قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن لي عند ربي عشرة أسماء ‏"‏، قال أبو الطفيل‏:‏ حفظت منها ثمانية‏:‏ محمد، وأحمد، وأبو القاسم، والفاتح، والخاتم، والماحي، والعاقب، والحاشر‏.‏ وزعم سيف أن أبا جعفر قال له الاسمان الباقيان‏:‏ طه ويس‏.‏

وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏طه * مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان لتشقى‏}‏ قال‏:‏ يا رجل ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، وكان يقوم الليل على رجليه فهي لغة لعك إن قلت لعكي‏:‏ يا رجل، لم يلتفت، وإذا قلت طه، التفت إليك‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ ‏{‏طه‏}‏ قسم أقسم الله به، وهو من أسمائه‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَحْتَ الثرى‏}‏ قال‏:‏ الثرى‏:‏ كل شيء مبتل‏.‏ وأخرج أبو يعلى عن جابر‏:‏ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل ما تحت هذه الأرض‏؟‏ قال‏:‏ «الماء»، قيل‏:‏ فما تحت الماء‏؟‏ قال‏:‏ «ظلمة» قيل‏:‏ فما تحت الظلمة‏؟‏ قال‏:‏ «الهواء» قيل‏:‏ فما تحت الهواء‏؟‏ قال‏:‏ «الثرى» قيل‏:‏ فما تحت الثرى‏؟‏ قال‏:‏ «انقطع علم المخلوقين عند علم الخالق» وأخرج ابن مردويه عنه نحوه بأطول منه‏.‏ وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله‏:‏ و‏{‏يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى‏}‏ قال‏:‏ السرّ ما أسرّه ابن آدم في نفسه، وأخفى‏:‏ ما خفي عن ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعمله، فإنه يعلم ذلك كله فيما مضى من ذلك وما بقي علم واحد وجميع الخلائق عنده في ذلك كنفس واحدة وهو كقوله‏:‏ ‏{‏مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحدة‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 28‏]‏‏.‏ وأخرج الحاكم وصححه عنه في الآية قال‏:‏ السرّ‏:‏ ما علمته أنت، وأخفى‏:‏ ما قذف الله في قلبك مما لم تعلمه‏.‏ وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وأبو الشيخ في العظمة، والبيهقي بلفظ‏:‏ يعلم ما تسرّ في نفسك ويعلم ما تعمل غداً‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى‏}‏ يقول‏:‏ من يدلّ على الطريق‏.‏ وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عليّ في قوله‏:‏ ‏{‏فاخلع نَعْلَيْكَ‏}‏ قال‏:‏ كانتا من جلد حمار ميت فقيل له‏:‏ اخلعهما‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ بالواد المقدس‏}‏ قال المبارك‏:‏ ‏{‏طوى‏}‏ قال‏:‏ اسم الوادي‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه ‏{‏بالواد المقدس طُوًى‏}‏ يعني‏:‏ الأرض المقدسة، وذلك أنه مرّ بواديها ليلاً فطوى يقال‏:‏ طويت وادي كذا وكذا‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏طُوًى‏}‏ قال‏:‏ طإ الوادي‏.‏

وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال‏:‏ ‏{‏أَقِمِ الصلاة لِذِكْرِى‏}‏» وأخرج الترمذي وابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه من حديث أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، فإن الله قال‏:‏ ‏{‏أَقِمِ الصلاة لِذِكْرِي‏}‏» وكان ابن شهاب يقرؤها‏:‏ «للذكرى»‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏أَكَادُ أُخْفِيهَا‏}‏ قال‏:‏ لا أظهر عليها أحداً غيري‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ ‏{‏أَكَادُ أُخْفِيهَا‏}‏ من نفسي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 35‏]‏

‏{‏وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ‏(‏17‏)‏ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى ‏(‏18‏)‏ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى ‏(‏19‏)‏ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ‏(‏20‏)‏ قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى ‏(‏21‏)‏ وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى ‏(‏22‏)‏ لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى ‏(‏23‏)‏ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ‏(‏24‏)‏ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ‏(‏25‏)‏ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ‏(‏26‏)‏ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ‏(‏27‏)‏ يَفْقَهُوا قَوْلِي ‏(‏28‏)‏ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ‏(‏29‏)‏ هَارُونَ أَخِي ‏(‏30‏)‏ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ‏(‏31‏)‏ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ‏(‏32‏)‏ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا ‏(‏33‏)‏ وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ‏(‏34‏)‏ إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا ‏(‏35‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى‏}‏ قال الزجاج والفراء‏:‏ إن ‏{‏تلك‏}‏ اسم ناقص وصلت ‏{‏بيمينك‏}‏ أي ما التي بيمينك‏؟‏ وروي عن الفراء أنه قال‏:‏ تلك بمعنى هذه، ولو قال‏:‏ ما ذلك لجاز، أي ما ذلك الشيء‏؟‏ وبالأوّل قال الكوفيون‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ومعنى سؤال موسى عمّا في يده من العصا التنبيه له عليها لتقع المعجزة بها بعد التثبيت فيها والتأمل لها‏.‏ قال الفراء‏:‏ ومقصود السؤال تقرير الأمر حتى يقول موسى‏:‏ هي عصاي لتثبيت الحجة عليه بعد ما اعترف، وإلا فقد علم الله ما هي في الأزل، ومحل «ما» الرفع على الابتداء، و‏{‏تلك‏}‏ خبره، و‏{‏بيمينك‏}‏ في محل نصب على الحال إن كانت تلك اسم إشارة على ما هو ظاهر اللفظ، وإن كانت اسماً موصولاً كان ‏{‏بيمينك‏}‏ صلة للموصول‏.‏

‏{‏قَالَ هِيَ عَصَايَ‏}‏ قرأ ابن أبي إسحاق‏:‏ ‏"‏ عصى ‏"‏ على لغة هذيل‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ ‏"‏ عَصَايَ ‏"‏ بكسر الياء لالتقاء الساكنين ‏{‏أتوكأ عليها‏}‏ أي أتحامل عليها في المشي وأعتمدها عند الإعياء والوقوف، ومنه الاتكاء‏.‏ ‏{‏وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي‏}‏ هش بالعصا يهش هشاً‏:‏ إذا خبط بها الشجر ليسقط منه الورق‏.‏ قال الشاعر‏:‏

أهش بالعصا على أغنامي *** من ناعم الأوراك والشام

وقرأ النخعي ‏"‏ أهس ‏"‏ بالسين المهملة، وهو زجر الغنم، وكذا قرأ عكرمة، وقيل‏:‏ هما لغتان لمعنى واحد ‏{‏وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى‏}‏ أي حوائج، واحدها مَأْرَبَة ومَأْرُبُة ومأربة مثلث الراء، كذا قال ابن الأعرابي وقطرب، ذكر تفصيل منافع العصا، ثم عقبه بالإجمال‏.‏

وقد تعرّض قوم لتعداد منافع العصا، فذكروا من ذلك أشياء منها قول بعض العرب‏:‏ عصاي أركزها لصلاتي، وأعدّها لعداتي، وأسوق بها دابتي، وأقوى بها على سفري، وأعتمد بها في مشيتي، ليتسع خطوي، وأثب بها النهر، وتؤمنني العثر، وألقي عليها كسائي، فتقيني الحرّ، وتدفيني من القرّ، وتدني إليّ ما بعد مني وهي تحمل سفرتي، وعلاقة إداوتي، أعصي بها عند الضراب، وأقرع بها الأبواب، وأقي بها عقور الكلاب، وتنوب عن الرمح في الطعان، وعن السيف عند منازلة الأقران، ورثتها عن أبي وأورثها بعدي بنيّ‏.‏ انتهى‏.‏

وقد وقفت على مصنف في مجلد لطيف في منافع العصا لبعض المتأخرين، وذكر فيه أخباراً وأشعاراً وفوائد لطيفة ونكتاً رشيقة‏.‏ وقد جمع الله سبحانه لموسى في عصاه من البراهين العظام والآيات الجسام ما أمن به من كيد السحرة ومعرّة المعاندين، واتخذها سليمان لخطبته وموعظته وطول صلاته، وكان ابن مسعود صاحب عصا النبيّ صلى الله عليه وسلم وعنزته، وكان يخطب بالقضيب وكذلك الخلفاء من بعده، وكان عادة العرب العرباء أخذ العصا والاعتماد عليها عند الكلام، وفي المحافل والخطب‏.‏

‏{‏قَالَ أَلْقِهَا ياموسى‏}‏ هذه جملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر، أمره سبحانه بإلقائها ليريه ما جعل له فيها من المعجزة الظاهرة ‏{‏فألقاها‏}‏ موسى على الأرض ‏{‏فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى‏}‏ وذلك بقلب الله سبحانه لأوصافها وأعراضها حتى صارت حية تسعى، أي تمشي بسرعة وخفة، قيل‏:‏ كانت عصا ذات شعبتين فصار الشعبتان فما وباقيها جسم حية، تنتقل من مكان إلى مكان وتلتقم الحجارة مع عظم جرمها وفظاعة منظرها، فلما رآها كذلك خاف وفزع وولى مدبراً ولم يعقب، فعند ذلك ‏{‏قَالَ‏}‏ سبحانه‏:‏ ‏{‏خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى‏}‏ قال الأخفش والزجاج‏:‏ التقدير‏:‏ إلى سيرتها، مثل

‏{‏واختار موسى قَوْمَهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 155‏]‏‏.‏ قال‏:‏ ويجوز أن يكون مصدراً؛ لأن معنى سنعيدها‏:‏ سنسيرها، ويجوز أن يكون المصدر بمعنى اسم الفاعل، أي سائرة، أو بمعنى اسم المفعول، أي مسيرة‏.‏ والمعنى‏:‏ سنعيدها بعد أخذك لها إلى حالتها الأولى التي هي العصوية‏.‏ قيل‏:‏ إنه لما قيل له‏:‏ ‏{‏لا تخف‏}‏ بلغ من عدم الخوف إلى أن كان يدخل يده في فمها ويأخذ بلحيها‏.‏

‏{‏واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ‏}‏ قال الفراء والزجاج‏:‏ جناح الإنسان عضده، وقال قطرب‏:‏ جناح الإنسان جنبه‏.‏ وعبر عن الجنب بالجناح؛ لأنه في محل الجناح، وقيل‏:‏ إلى بمعنى مع، أي مع جناحك، وجواب الأمر ‏{‏تَخْرُجْ بَيْضَاء‏}‏ أي تخرج يدك حال كونها بيضاء، ومحل ‏{‏مِنْ غَيْرِ سُوء‏}‏ النصب على الحال، أي كائنة من غير سوء‏.‏ والسوء‏:‏ العيب، كني به عن البرص، أي تخرج بيضاء ساطعاً نورها تضيء بالليل والنهار كضوء الشمس من غير برص‏.‏ وانتصاب ‏{‏آيةً أُخْرَى‏}‏ على الحال أيضاً، أي معجزة أخرى غير العصا‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ إن آية منتصبة على أنها بدل من بيضاء‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهو قول حسن‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ آتيناك أو نؤتيك آية أخرى لأنه لما قال‏:‏ ‏{‏تَخْرُجْ بَيْضَاء‏}‏ دلّ على أنه قد آتاه آية أخرى، ثم علل سبحانه ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏لِنُرِيَكَ مِنْ ءاياتنا الكبرى‏}‏ قيل‏:‏ والتقدير‏:‏ فعلنا ذلك لنريك، و‏{‏من آياتنا‏}‏ متعلق بمحذوف وقع حالاً، و‏{‏الكبرى‏}‏ معناها‏:‏ العظمى، وهو صفة لموصوف محذوف، والتقدير‏:‏ لنريك من آياتنا الآية الكبرى، أي لنريك بهاتين الآيتين يعني‏:‏ اليد والعصا بعض آياتنا الكبرى، فلا يلزم أن تكون اليد هي الآية الكبرى وحدها حتى تكون أعظم من العصا، فيرد على ذلك أنه لم يكن في اليد إلا تغير اللون فقط بخلاف العصا، فإن فيها مع تغير اللون الزيادة في الحجم وخلق الحياة والقدرة على الأمور الخارقة‏.‏

ثم صرّح سبحانه بالغرض المقصود من هذه المعجزات، فقال‏:‏ ‏{‏اذهب إلى فِرْعَوْنَ‏}‏ وخصه بالذكر؛ لأن قومه تبع له، ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ طغى‏}‏ أي عصى وتكبر وكفر وتجبر وتجاوز الحدّ، وجملة ‏{‏قَالَ رَبّ اشرح لِي صَدْرِي‏}‏ مستأنفة جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل‏:‏ فماذا قال‏؟‏ ومعنى شرح الصدر‏:‏ توسيعه، تضرّع عليه السلام إلى ربه وأظهر عجزه بقوله‏:‏

‏{‏وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِى‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 13‏]‏، ومعنى تيسير الأمر‏:‏ تسهيله‏.‏ ‏{‏واحلل عُقْدَةً مّن لّسَانِى‏}‏ يعني‏:‏ العجمة التي كانت فيه من الجمرة التي ألقاها في فيه وهو طفل، أي أطلق عن لساني العقدة التي فيه، قيل‏:‏ أذهب الله سبحانه تلك العقدة جميعها بدليل قوله‏:‏ ‏{‏قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ لم تذهب كلها؛ لأنه لم يسأل حلّ عقدة لسانه بالكلية، بل سأل حلّ عقدة تمنع الإفهام بدليل قوله‏:‏ ‏{‏مّن لّسَانِي‏}‏ أي كائنة من عقد لساني، ويؤيد ذلك قوله‏:‏ ‏{‏هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 34‏]‏، وقوله حكاية عن فرعون‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 52‏]‏، وجواب الأمر قوله‏:‏ ‏{‏يَفْقَهُواْ قَوْلِي‏}‏ أي يفهموا كلامي، والفقه في كلام العرب‏:‏ الفهم، ثم خص به علم الشريعة والعالم به فقيه، قاله الجوهري‏.‏

‏{‏واجعل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى * هارون أَخِي‏}‏ الوزير‏:‏ الموازر، كالأكيل المواكل، لأنه يحمل عن السلطان وزره، أي ثقله‏.‏ قال الزجاج‏:‏ واشتقاقه في اللغة من الوزر، وهو الجبل الذي يعتصم به لينج من الهلكة‏.‏ والوزير‏:‏ الذي يعتمد الملك على رأيه في الأمور ويلتجئ إليه‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ هو مشتق من الموازرة، وهي المعاونة‏.‏ وانتصاب ‏{‏وزيراً‏}‏ و‏{‏هارون‏}‏ على أنهما مفعولا اجعل، وقيل‏:‏ مفعولاه‏:‏ لي وزيراً، ويكون هارون عطف بيان للوزير، والأوّل أظهر، ويكون لي متعلقاً بمحذوف، أي‏:‏ كائناً لي، و‏{‏من أهلي‏}‏ صفة ل ‏{‏وزيراً‏}‏، وأخي بدل من هارون‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏اشدد‏}‏ بهمزة وصل، و‏{‏أشركه‏}‏ بهمزة قطع كلاهما على صيغة الدعاء، أي يا رب أحكم به قوّتي واجعله شريكي في أمر الرسالة، والأزر‏:‏ القوة، يقال‏:‏ آزره، أي قوّاه‏.‏ وقيل‏:‏ الظهر، أي أشدد به ظهري‏.‏ وقرأ ابن عامر ويحيى بن الحارث وأبو حيوة والحسن وعبد الله بن أبي إسحاق «أشدد» بهمزة قطع «وأشركه» بضم الهمزة، أي أشدد أنا به أزري وأشركه أنا في أمري‏.‏ قال النحاس‏:‏ جعلوا الفعلين في موضع جزم جواباً لقوله ‏{‏اجعل لي وزيراً‏}‏، وقرأ بفتح الياء من‏:‏ «أخي» ابن كثير وأبو عمرو‏.‏ ‏{‏كَيْ نُسَبّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً‏}‏ هذا التسبيح والذكر هما الغاية من الدعاء المتقدّم‏.‏ والمراد التسبيح هنا باللسان‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به‏:‏ الصلاة، وانتصاب ‏{‏كثيراً‏}‏ في الموضعين على أنه نعت مصدر محذوف، أو لزمان محذوف ‏{‏إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً‏}‏ البصير المبصر والبصير العالم بخفيات الأمور، وهو المراد هنا، أي إنك كنت بنا عالماً في صغرنا فأحسنت إلينا، فأحسن إلينا أيضاً كذلك الآن‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في عصا موسى قال‏:‏ أعطاه ملك من الملائكة إذ توجه إلى مدين فكانت تضيء له بالليل، ويضرب بها الأرض فتخرج له النبات، ويهشّ بها على غنمه ورق الشجر‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِى‏}‏ قال‏:‏ أضرب بها الشجر فيتساقط منه الورق على غنمي، وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف‏.‏ وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلِىَ فِيهَا مَآرِبُ‏}‏ قال‏:‏ حوائج‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ نحوه‏.‏ وأخرج أيضاً عن قتادة قال‏:‏ كانت تضيء له بالليل، وكانت عصا آدم عليه السلام‏.‏

وأخرج أيضاً عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فألقاها فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى‏}‏ قال‏:‏ ولم تكن قبل ذلك حية فمرّت بشجرة فأكلتها، ومرّت بصخرة فابتلعتها، فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها فولى مدبراً، فنودي أن يا موسى خذها، فلم يأخذها، ثم نودي الثانية‏:‏ أن خذها ولا تخف، فقيل له في الثالثة‏:‏ إنك من الآمنين فأخذها‏.‏ وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه‏:‏ ‏{‏سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى‏}‏ قال‏:‏ حالتها الأولى‏.‏ وأخرجا عنه أيضاً‏:‏ ‏{‏مِنْ غَيْرِ سُوء‏}‏ قال‏:‏ من غير برص‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏واجعل لّي وَزِيراً مّنْ أَهْلِي * هارون أَخِي‏}‏ قال‏:‏ كان أكبر من موسى‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي‏}‏ قال‏:‏ نبئ هارون ساعتئذٍ حين نبئ موسى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 44‏]‏

‏{‏قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ‏(‏36‏)‏ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ‏(‏37‏)‏ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ‏(‏38‏)‏ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ‏(‏39‏)‏ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ‏(‏40‏)‏ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ‏(‏41‏)‏ اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ‏(‏42‏)‏ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ‏(‏43‏)‏ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ‏(‏44‏)‏‏}‏

لما سأل موسى ربه سبحانه أن يشرح صدره وييسر له أمره ويحلل عقدة من لسانه ويجعل له وزيراً من أهله أخبره الله سبحانه بأنه قد أجاب ذلك الدعاء، فقال‏:‏ ‏{‏قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى‏}‏ أي‏:‏ أعطيت ما سألته، والسؤل المسؤول، أي المطلوب، كقولك‏:‏ خبر بمعنى مخبور، وزيادة قوله‏:‏ ‏{‏يا موسى‏}‏ لتشريفه بالخطاب مع رعاية الفواصل، وجملة‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى‏}‏ كلام مستأنف لتقوية قلب موسى بتذكيره نعم الله عليه، والمنّ‏:‏ الإحسان والإفضال، والمعنى‏:‏ ولقد أحسنا إليك مرّة أخرى قبل هذه المرّة، وهي حفظ الله سبحانه له من شرّ الأعداء كما بينه سبحانه ها هنا، وأخرى تأنيث آخر بمعنى غير‏.‏

‏{‏إِذْ أَوْحَيْنَا إلى أُمّكَ مَا يوحى‏}‏ أي مننا ذلك الوقت وهو وقت الإيحاء، فإذ ظرف للإيحاء، والمراد بالإيحاء إليها‏:‏ إما مجرّد الإلهام لها، أو في النوم بأن أراها ذلك، أو على لسان نبيّ، أو على لسان ملك، لا على طريق النبوّة كالوحي إلى مريم، أو بإخبار الأنبياء المتقدمين بذلك وانتهى الخبر إليها، والمراد بما يوحى‏:‏ ما سيأتي من الأمر لها، أبهمه أوّلاً، وفسّره ثانياً؛ تفخيماً لشأنه، وجملة‏:‏ ‏{‏أَنِ اقذفيه فِي التابوت‏}‏ مفسرة؛ لأن الوحي فيه معنى القول، أو مصدرية على تقدير بأن اقذفيه، والقذف ها هنا‏:‏ الطرح، أي اطرحيه في التابوت وقد مرّ تفسير التابوت في البقرة في قصة طالوت ‏{‏فاقذفيه فِي اليم‏}‏ أي اطرحيه في البحر، واليم‏:‏ البحر أو النهر الكبير‏.‏ قال الفراء‏:‏ هذا أمر وفيه المجازاة، أي اقذفيه يلقه اليم بالساحل، والأمر للبحر مبني على تنزيله منزلة من يفهم ويميز، لما كان إلقاؤه إياه بالساحل أمراً واجب الوقوع‏.‏ والساحل‏:‏ هو شط البحر، سمي ساحلاً، لأن الماء سحله، قاله ابن دريد‏.‏ والمراد هنا‏:‏ ما يلي الساحل من البحر لا نفس الساحل، والضمائر هذه كلها لموسى لا للتابوت، وإن كان قد ألقي معه لكن المقصود هو موسى مع كون الضمائر قبل هذا وبعده له، وجملة‏:‏ ‏{‏يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّي وَعَدُوٌّ لَّهُ‏}‏ جواب الأمر بالإلقاء، والمراد بالعدوّ‏:‏ فرعون، فإن أمّ موسى لما ألقته في البحر، وهو النيل المعروف، وكان يخرج منه نهر إلى دار فرعون، فساقه الله في ذلك النهر إلى داره، فأخذ التابوت فوجد موسى فيه؛ وقيل‏:‏ إن البحر ألقاه بالساحل فنظره فرعون فأمر من يأخذه‏.‏ وقيل‏:‏ وجدته ابنة فرعون، والأوّل أولى‏.‏

‏{‏وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى‏}‏ أي ألقى الله على موسى محبة كائنة منه تعالى في قلوب عباده لا يراه أحد إلا أحبه‏.‏ وقيل‏:‏ جعل عليه مسحة من جمال لا يراه أحد من الناس إلا أحبه‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ المعنى وألقيت عليك رحمتي‏.‏

وقيل‏:‏ كلمة «مِنْ» متعلقة ب ‏{‏ألقيت‏}‏، فيكون المعنى‏:‏ ألقيت مني عليك محبة أي أحببتك، ومن أحبه الله أحبه الناس‏.‏ ‏{‏وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِى‏}‏ أي ولتربى وتغذى بمرأى مني، يقال‏:‏ صنع الرجل جاريته‏:‏ إذا رباها، وصنع فرسه‏:‏ إذا داوم على علفه والقيام عليه، وتفسير ‏{‏على عَيْنِي‏}‏‏:‏ بمرأى مني صحيح‏.‏ قال النحاس‏:‏ وذلك معروف في اللغة، ولكن لا يكون في هذا تخصيص لموسى، فإن جميع الأشياء بمرآى من الله‏.‏ وقال أبو عبيدة وابن الأنباري‏:‏ إن المعنى لتغذى على محبتي وإرادتي، تقول‏:‏ أتخذ الأشياء على عيني، أي على محبتي‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ العين في هذه الآية يقصد بها قصد الإرادة والاختيار، من قول العرب‏:‏ غدا فلان على عيني، أي على المحبة مني‏.‏ قيل‏:‏ واللام متعلقة بمحذوف، أي فعلت ذلك لتصنع، وقيل‏:‏ متعلقة ب ‏{‏ألقيت‏}‏، وقيل‏:‏ متعلقة بما بعده، أي ولتصنع على عيني قدّرنا مشي أختك‏.‏ وقرأ ابن القعقاع‏:‏ «ولتصنع» بإسكان اللام على الأمر، وقرأ أبو نهيك بفتح التاء‏.‏ والمعنى‏:‏ ولتكون حركتك وتصرّفك بمشيئتي، وعلى عين مني‏.‏

‏{‏إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ‏}‏ ظرف لألقيت، أو لتصنع، ويجوز أن يكون بدلاً من ‏{‏إِذْ أَوْحَيْنَا‏}‏ وأخته اسمها مريم ‏{‏فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ‏}‏ وذلك أنها خرجت متعرّفة لخبره، فوجدت فرعون وامرأته آسية يطلبان له مرضعة، فقالت لهما هذا القول، أي هل أدلكم على من يضمه إلى نفسه ويربيه‏؟‏ فقالا لها‏:‏ ومن هو‏؟‏ قالت‏:‏ أمي، فقالا‏:‏ هل لها لبن‏؟‏ قالت‏:‏ نعم لبن أخي هارون، وكان هارون أكبر من موسى بسنة‏.‏ وقيل‏:‏ بأكثر، فجاءت الأم فقبل ثديها، وكان لا يقبل ثدي مرضعة غيرها، وهذا هو معنى‏:‏ ‏{‏فرجعناك إلى أُمّكَ‏}‏ وفي مصحف أبيّ‏:‏ «فرددناك»، والفاء فصيحة‏.‏ ‏{‏كَي تَقَرَّ عَيْنُها‏}‏ قرأ ابن عامر في رواية عبد الحميد عنه‏:‏ «كي تقرّ» بكسر القاف، وقرأ الباقون بفتحها‏.‏ قال الجوهري‏:‏ قررت به عيناً قرّة وقروراً، ورجل قرير العين، وقد قرّت عينه تقرّ وتقرّ، نقيض سخنت، والمراد بقرّة العين‏:‏ السرور برجوع ولدها إليها بعد أن طرحته في البحر وعظم عليها فراقه‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَحْزَنْ‏}‏ أي لا يحصل لها ما يكدّر ذلك السرور من الحزن بسبب من الأسباب، ولو أراد الحزن بالسبب الذي قرّت عينها بزواله لقدّم نفي الحزن على قرّة العين، فيحمل هذا النفي للحزن على ما يحصل بسبب يطرأ بعد ذلك، ويمكن أن يقال‏:‏ إن الواو لما كانت لمطلق الجمع كان هذا الحمل غير متعين‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ ولا تحزن أنت يا موسى بفقد إشفاقها، وهو تعسف ‏{‏وَقَتَلْتَ نَفْساً‏}‏ المراد بالنفس هنا‏:‏ نفس القبطي الذي وكزه موسى فقضى عليه، وكان قتله له خطأ ‏{‏فنجيناك مِنَ الغم‏}‏ أي الغمّ الحاصل معك من قتله خوفاً من العقوبة الأخروية أو الدنيوية أو منهما جميعاً؛ وقيل‏:‏ الغمّ هو القتل بلغة قريش، وما أبعد هذا ‏{‏وفتناك فُتُوناً‏}‏ الفتنة تكون بمعنى المحنة، وبمعنى الأمر الشاقّ، وكل ما يبتلى به الإنسان‏.‏

والفتون يجوز أن يكون مصدراً كالثبور والشكور والكفور، أي ابتليناك ابتلاءً، واختبرناك اختباراً، ويجوز أن يكون جمع فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث كحجور في حجرة وبدور في بدرة، أي خلصناك مرّة بعد مرّة مما وقعت فيه من المحن التي سبق ذكرها قبل أن يصطفيه الله لرسالته‏.‏ ولعلّ المقصود بذكر تنجيته من الغمّ الحاصل له بذلك السبب وتنجيته من المحن هو‏:‏ الامتنان عليه بصنع الله سبحانه له، وتقوية قلبه عند ملاقاة ما سيقع له من ذلك مع فرعون وبني إسرائيل ‏{‏فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ‏}‏ قال الفراء‏:‏ تقدير الكلام‏:‏ وفتناك فتوناً، فخرجت إلى أهل مدين فلبثت سنين، ومثل هذا الحذف كثير في التنزيل، وكذا في كلام العرب فإنهم يحذفون كثيراً من الكلام إذا كان المعنى معروفاً‏.‏ ومدين هي بلد شعيب، وكانت على ثماني مراحل من مصر، هرب إليها موسى فأقام بها عشر سنين، وهي أتمّ الأجلين‏.‏ وقيل‏:‏ أقام عند شعيب ثمان وعشرين سنة، منها عشر مهر امرأته ابنة شعيب، ومنها ثماني عشرة سنة بقي فيها عنده حتى ولد له، والفاء في‏:‏ ‏{‏فَلَبِثْتَ‏}‏ تدل على أن المراد بالمحن المذكورة‏:‏ هي ما كان قبل لبثه في أهل مدين ‏{‏ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى‏}‏ أي في وقت سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأجعلك نبياً، أو على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء، وهو رأس أربعين سنة، أو على موعد قد عرفته بإخبار شعيب لك به‏.‏ قال الشاعر‏:‏

نال الخلافة إذ كانت له قدرا *** كما أتى ربه موسى على قدر

وكلمة‏:‏ «ثم» المفيدة للتراخي للدلالة على أن مجيئه عليه السلام كان بعد مدّة، وذلك بسبب ما وقع له من ضلال الطريق وتفرّق غنمه ونحو ذلك‏.‏ ‏{‏واصطنعتك لِنَفْسِي‏}‏ الاصطناع‏:‏ اتخاذ الصنعة، وهي الخير تسديه إلى إنسان، والمعنى‏:‏ اصطنعتك لوحيي ورسالتي لتتصرّف على إرادتي‏.‏ قال الزجاج‏:‏ تأويله اخترتك لإقامة حجتي، وجعلتك بيني وبين خلقي، وصرت بالتبليغ عني بالمنزلة التي أكون أنا بها لو خاطبتهم واحتججت عليهم‏.‏ قيل‏:‏ وهو تمثيل لما خوّله الله سبحانه من الكرامة العظمى بتقريب الملك لبعض خواصه‏.‏ ‏{‏اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ‏}‏ أي وليذهب أخوك، وهو كلام مستأنف مسوق لبيان ما هو المقصود من الاصطناع، ومعنى ‏{‏بآياتي‏}‏‏:‏ بمعجزاتي التي جعلتها لك آية، وهي التسع الآيات‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي‏}‏ أي لا تضعفا ولا تفترا، يقال‏:‏ ونى يني ونياً‏:‏ إذا ضعف‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فما ونى محمد مذ أن غفر *** له الإله ما مضى وما غبر

وقال امرؤ القيس‏:‏

يسيح إذا ما السابحات على الوني *** أثرن غباراً بالكديد الموكل

قال الفراء‏:‏ في ذكري وعن ذكري سواء، والمعنى‏:‏ لا تقصرا عن ذكري بالإحسان إليكما، والإنعام عليكما وذكر النعمة شكرها‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏لا تنيا‏}‏‏:‏ لا تبطئا في تبليغ الرسالة، وفي قراءة ابن مسعود «لا تَنِيَا فِي ذِكْرِي»‏.‏

‏{‏اذهبا إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى‏}‏ هذا أمر لهما جميعاً بالذهاب، وموسى حاضر وهارون غائب تغليباً لموسى؛ لأنه الأصل في أداء الرسالة، وعلل الأمر بالذهاب بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ طغى‏}‏ أي جاوز الحدّ في الكفر والتمرّد، وخص موسى وحده بالأمر بالذهاب فيما تقدّم، وجمعهما هنا تشريفاً لموسى بإفراده، وتأكيداً للأمر بالذهاب بالتكرير‏.‏ وقيل‏:‏ إن في هذا دليلاً على أنه لا يكفي ذهاب أحدهما‏.‏ وقيل الأوّل‏:‏ أمر لموسى بالذهاب إلى كل الناس، والثاني‏:‏ أمر لهما بالذهاب إلى فرعون‏.‏ ثم مرهما سبحانه بإلانة القول له لما في ذلك من التأثير في الإجابة، فإن التخشين بادئ ‏[‏ذي‏]‏ بدء يكون من أعظم أسباب النفور والتصلب في الكفر، والقول اللين‏:‏ هو الذي لا خشونة فيه، يقال‏:‏ لان الشيء يلين ليناً، والمراد‏:‏ تركهما للتعنيف، كقولهما‏:‏ ‏{‏هَل لَّكَ إلى أَن تزكى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ القول اللين هو الكنية له، وقيل‏:‏ أن يعداه بنعيم الدنيا إن أجاب، ثم علل الأمر بإلانة القول له بقوله‏:‏ ‏{‏لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى‏}‏ أي باشرا ذلك مباشرة من يرجو ويطمع، فالرجاء راجع إليهما كما قاله جماعة من النحويين‏:‏ سيبويه وغيره‏.‏ وقد تقدّم تحقيقه في غير موضع قال الزجاج‏:‏ «لَعَلَّ» لفظة طمع وترج، فخاطبهم بما يعقلون‏.‏ وقيل‏:‏ لعلّ ها هنا بمعنى الاستفهام‏.‏ والمعنى‏:‏ فانظرا هل يتذكر أو يخشى‏؟‏ وقيل‏:‏ بمعنى كي‏.‏ والتذكر‏:‏ النظر فيما بلغاه من الذكر وإمعان الفكر فيه حتى يكون ذلك سبباً في الإجابة، والخشية هي خشية عقاب الله الموعود به على لسانهما، وكلمة «أو» لمنع الخلوّ دون الجمع‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السديّ في قوله‏:‏ ‏{‏فاقذفيه فِي اليم‏}‏ قال‏:‏ هو النيل‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّي‏}‏ قال‏:‏ كان كل من رآه ألقيت عليه منه محبته‏.‏ وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن سلمة بن كهيل قال‏:‏ حببتك إلى عبادي‏.‏ وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عمران الجوني في قوله‏:‏ ‏{‏وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِي‏}‏ قال‏:‏ تربى بعين الله‏.‏ وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال‏:‏ لتغذى على عيني‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال‏:‏ يقول أنت بعيني، إذ جعلتك أمك في التابوت، ثم في البحر، وإذ تمشي أختك‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والخطيب عن ابن عمر‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «إنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ» يقول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَقَتَلْتَ نَفْساً فنجيناك مِنَ الغم‏}‏ قال‏:‏ «من قتل النفس» ‏{‏وفتناك فُتُوناً‏}‏ قال‏:‏ «أخلصناك إخلاصاً»

وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وفتناك فُتُوناً‏}‏ قال‏:‏ ابتليناك ابتلاءً‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه قال‏:‏ اختبرناك اختباراً‏.‏ وقد أخرج عبد بن حميد، والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أثراً طويلاً في تفسير الآية، فمن أحبّ استيفاء ذلك فلينظره في كتاب التفسير من سنن النسائي‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ‏}‏ قال‏:‏ لميقات‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد وقتادة ‏{‏على قَدَرٍ‏}‏ قال‏:‏ موعد‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ‏{‏وَلاَ تَنِيَا‏}‏ قال‏:‏ لا تبطئا‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن عليّ في قوله‏:‏ ‏{‏قَوْلاً لَّيّناً‏}‏ قال‏:‏ كنَّه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال‏:‏ كنياه‏.‏ وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى‏}‏ قال‏:‏ هل يتذكر‏؟‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 59‏]‏

‏{‏قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى ‏(‏45‏)‏ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ‏(‏46‏)‏ فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ‏(‏47‏)‏ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏48‏)‏ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ‏(‏49‏)‏ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ‏(‏50‏)‏ قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى ‏(‏51‏)‏ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ‏(‏52‏)‏ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ‏(‏53‏)‏ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ‏(‏54‏)‏ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ‏(‏55‏)‏ وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ‏(‏56‏)‏ قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ‏(‏57‏)‏ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى ‏(‏58‏)‏ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ‏(‏59‏)‏‏}‏

قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أن يفرط‏}‏ بفتح الياء وضم الراء، ومعنى ذلك‏:‏ أننا نخاف أن يعجل ويبادر بعقوبتنا، يقال‏:‏ فرط منه أمر، أي بدر، ومنه الفارط، وهو الذي يتقدّم القوم إلى الماء، أي يعذبنا عذاب الفارط في الذنب، وهو المتقدّم فيه، كذا قال المبرد، وقال أيضاً‏:‏ فرط منه أمر وأفرط‏:‏ أسرف، وفرط‏:‏ ترك‏.‏ وقرأ ابن محيصن‏:‏ «يفرط» بضم الياء وفتح الراء، أي يحمله حامل على التسرّع إلينا، وقرأت طائفة بضم الياء وكسر الراء، ومنهم ابن عباس ومجاهد، وعكرمة من الإفراط، أي يشتطّ في أذيتنا‏.‏ قال الراجز‏:‏

قد أفرط العلج علينا وعجل *** ومعنى ‏{‏أَوْ أَن يطغى‏}‏ قد تقدّم قريباً، وجملة‏:‏ ‏{‏قَالَ لاَ تَخَافَا‏}‏ مستأنفة جواب سؤال مقدّر، نهى لهما عن الخوف الذي حصل معهما من فرعون، ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّنِى مَعَكُمَا‏}‏ أي بالنصر لهما، والمعونة على فرعون، ومعنى ‏{‏أَسْمَعُ وأرى‏}‏‏:‏ إدراك ما يجري بينهما وبينه، بحيث لا يخفى عليه سبحانه منه خافية، وليس بغافل عنهما، ثم أمرهما بإتيانه الذي هو عبارة عن الوصول إليه بعد أمرهما بالذهاب إليه فلا تكرار‏.‏ ‏{‏فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ‏}‏ أرسلنا إليك ‏{‏فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إسراءيل‏}‏ أي خلّ عنهم وأطلقهم من الأسر ‏{‏وَلاَ تُعَذّبْهُمْ‏}‏ بالبقاء على ما كانوا عليه، وقد كانوا عند فرعون في عذاب شديد‏:‏ يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، ويكلفهم من العمل ما لا يطيقونه، ثم أمرهما سبحانه أن يقولا لفرعون‏:‏ ‏{‏قَدْ جئناك بِئَايَةٍ مّن رَّبّكَ‏}‏ قيل‏:‏ هي العصا واليد‏.‏ وقيل إن فرعون قال لهما‏:‏ وما هي‏؟‏ فأدخل موسى يده في جيب قميصه، ثم أخرجها لها شعاع كشعاع الشمس، فعجب فرعون من ذلك، ولم يره موسى العصا إلا يوم الزينة ‏{‏والسلام على مَنِ اتبع الهدى‏}‏ أي السلامة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أي من اتبع الهدى سلم من سخط الله عزّ وجلّ ومن عذابه، وليس بتحية، قال‏:‏ والدليل على ذلك أنه ليس بابتداء لقاء ولا خطاب‏.‏ قال الفراء‏:‏ السلام على من اتبع الهدى، ولمن اتبع الهدى سواء‏.‏

‏{‏إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَا‏}‏ من جهة الله سبحانه ‏{‏أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى‏}‏ المراد بالعذاب‏:‏ الهلاك والدمار في الدنيا والخلود في النار‏.‏ والمراد بالتكذيب‏:‏ التكذيب بآيات الله وبرسله‏.‏ والتولي‏:‏ الإعراض عن قبولها والإيمان بها‏.‏ ‏{‏قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى‏}‏ أي قال فرعون لهما‏:‏ فمن ربكما‏؟‏ فأضاف الربّ إليهما ولم يضفه إلى نفسه؛ لعدم تصديقه لهما ولجحده للربوبية‏.‏ وخص موسى بالنداء لكونه؛ الأصل في الرسالة وقيل‏:‏ لمطابقة رؤوس الآي‏.‏ ‏{‏قَالَ رَبُّنَا الذى أعطى كُلَّ شَيء خَلْقَهُ‏}‏ أي‏:‏ قال موسى مجيباً له، و‏{‏ربنا‏}‏ مبتدأ، وخبره ‏{‏الذي أعطى كُلَّ شَيء خَلْقَهُ‏}‏، ويجوز أن يكون ‏{‏ربنا‏}‏ خبر مبتدأ محذوف، وما بعده صفته‏.‏

قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏خلقه‏}‏ بسكون اللام، وروى زائدة عن الأعمش أنه قرأ‏:‏ «خلقه» بفتح اللام على أنه فعل، وهي قراءة ابن أبي إسحاق، ورواها نصير عن الكسائي‏.‏ فعلى القراءة الأولى يكون خلقه ثاني مفعولي أعطى‏.‏ والمعنى‏:‏ أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به المطابقة له كاليد للبطش، والرجل للمشي واللسان للنطق، والعين للنظر، والأذن للسمع، كذا قال الضحاك وغيره‏.‏ وقال الحسن وقتادة‏:‏ أعطى كل شيء صلاحه وهداه لما يصلحه‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ المعنى لم يخلق خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان، ولكن خلق كل شيء فقدّره تقديراً، ومنه قول الشاعر‏:‏

وله في كل شيء خِلْقُهُ *** وكذاك الله ما شاء فعل

وقال الفراء‏:‏ المعنى خلق للرجل المرأة، ولكل ذكر ما يوافقه من الإناث‏.‏ ويجوز أن يكون خلقه على القراءة الأولى هو المفعول الأوّل لأعطى، أي أعطى خلقه كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به، ومعنى ‏{‏ثُمَّ هدى‏}‏‏:‏ أنه سبحانه هداهم إلى طرق الانتفاع بما أعطاهم فانتفعوا بكل شيء فيما خلق له، وأما على القراءة الآخرة، فيكون الفعل صفة للمضاف أو للمضاف إليه، أي أعطى كل شيء خلقه الله سبحانه ولم يخله من عطائه، وعلى هذه القراءة يكون المفعول الثاني محذوفاً، أي أعطى كل شيء خلقه ما يحتاج إليه، فيوافق معناها معنى القراءة الأولى‏.‏

‏{‏قَالَ فَمَا بَالُ القرون الاولى‏}‏ لما سمع فرعون ما احتج به موسى في ضمن هذا الكلام على إثبات الربوبية كما لا يخفى من أن الخلق والهداية ثابتان بلا خلاف، ولا بدّ لهما من خالق وهادٍ، وذلك الخالق والهادي هو الله سبحانه لا ربّ غيره‏.‏ قال فرعون‏:‏ فما بال القرون الأولى‏؟‏ فإنها لم تقرّ بالربّ الذي تدعو إليه يا موسى بل عبدت الأوثان ونحوها من المخلوقات، ومعنى البال‏:‏ الحال والشان، أي ما حالهم وما شأنهم‏؟‏ وقيل‏:‏ إن سؤال فرعون عن القرون الأولى مغالطة لموسى لما خاف أن يظهر لقومه أنه قد قهره بالحجة أي‏:‏ ما حال القرون الماضية، وماذا جرى عليهم من الحوادث‏؟‏ فأجابه موسى، فقال ‏{‏عِلْمُهَا عِندَ رَبّى‏}‏ أي إن هذا الذي سألت عنه ليس مما نحن بصدده، بل هو من علم الغيب الذي استأثر الله به لا تعلمه أنت ولا أنا‏.‏ وعلى التفسير الأوّل يكون معنى ‏{‏عِلْمُهَا عِندَ رَبّي‏}‏‏:‏ أن علم هؤلاء الذين عبدوا الأوثان ونحوها محفوظ عند الله في كتابه سيجازيهم عليها، ومعنى كونها في كتاب‏:‏ أنها مثبتة في اللوح المحفوظ‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى أن أعمالهم محفوظة عند الله يجازي بها، والتقدير‏:‏ علم أعمالها عند ربي في كتاب‏.‏

وقد اختلف في معنى ‏{‏لاَّ يَضِلُّ رَبّي وَلاَ يَنسَى‏}‏ على أقوال‏:‏ الأوّل‏:‏ أنه ابتداء كلام تنزيه لله تعالى عن هاتين الصفتين‏.‏ وقد تمّ الكلام عند قوله‏:‏ ‏{‏في كتاب‏}‏ كذا قال الزجاج، قال‏:‏ ومعنى ‏{‏لاَّ يَضِلُّ‏}‏‏:‏ لا يهلك من قوله‏:‏ ‏{‏أَءذَا ضَلَلْنَا فِى الأرض‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 10‏]‏ ‏{‏وَلاَ يَنسَى‏}‏ شيئاً من الأشياء، فقد نزّهه عن الهلاك والنسيان‏.‏ القول الثاني‏:‏ أن معنى ‏{‏لاَّ يَضِلُّ‏}‏‏:‏ لا يخطئ‏.‏ القول الثالث‏:‏ أن معناه لا يغيب‏.‏ قال ابن الأعرابي‏:‏ أصل الضلال الغيبوبة‏.‏ القول الرابع‏:‏ أن المعنى‏:‏ لا يحتاج إلى كتاب، ولا يضلّ عنه علم شيء من الأشياء، ولا ينسى ما علمه منها، حكي هذا عن الزجاج أيضاً‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهو أشبهها بالمعنى‏.‏ ولا يخفى أنه كقول ابن الأعرابي‏.‏ القول الخامس‏:‏ أن هاتين الجملتين صفة لكتاب، والمعنى‏:‏ أن الكتاب غير ذاهب عن الله ولا هو ناس له‏.‏

‏{‏الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مهادا‏}‏ الموصول محل رفع على أنه صفة لربي متضمنة لزيادة البيان، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أو في محل نصب على المدح‏.‏ قرأ الكوفيون ‏{‏مهداً‏}‏ على أنه مصدر لفعل مقدّر، أي مهدها مهداً، أو على تقدير مضاف محذوف، أي ذات مهد، وهو اسم لما يمهد كالفراش لما يفرش‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏مهاداً‏}‏ واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم قالا‏:‏ لاتفاقهم على قراءة‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مهادا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 6‏]‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ والجمع أولى من المصدر؛ لأن هذا الموضع ليس وضع المصدر إلا على حذف المضاف‏.‏ قيل‏:‏ يجوز أن يكون مهاداً مفرداً كالفراش، ويجوز أن يكون جمعاً‏.‏ ومعنى الهاد‏:‏ الفراش، فالمهاد جمع المهد، أي جعل كل موضع منها مهداً لكل واحد منكم‏.‏ ‏{‏وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً‏}‏ السلك‏:‏ إدخال الشيء في الشيء‏.‏ والمعنى‏:‏ أدخل في الأرض لأجلكم طرقاً تسلكونها وسهلها لكم‏.‏ وفي الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مهادا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 10‏]‏‏.‏

ثم قال سبحانه ممتناً على عباده‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء‏}‏ هو ماء المطر‏.‏ قيل‏:‏ إلى هنا انتهى كلام موسى، وما بعده هو‏:‏ ‏{‏فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مّن نبات شتى‏}‏ من كلام الله سبحانه‏.‏ وقيل‏:‏ هو من الكلام المحكيّ عن موسى معطوف على أنزل، وإنما التفت إلى التكلم للتنبيه إلى ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة‏.‏ ونوقش بأن هذا خلاف الظاهر مع استلزامه فوت الالتفات لعدم اتحاد المتكلم، ويجاب عنه‏:‏ بأن الكلام كله محكيّ عن واحد هو موسى، والحاكي للجميع هو الله سبحانه والمعنى‏:‏ فأخرجنا بذلك الماء بسبب الحرث والمعالجة أزواجاً، أي ضروباً وأشباهاً من أصناف النبات المختلفة‏.‏ وقوله ‏{‏من نبات‏}‏ صفة ل ‏{‏أزواجاً‏}‏ أو بيان له، وكذا ‏{‏شتى‏}‏ صفة أخرى له، أي متفرّقة جمع شتيت‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ التقدير‏:‏ أزواجاً شتى من نبات‏.‏

قال‏:‏ وقد يكون النبات شتى، فيجوز أن يكون شتى ‏{‏نعتاً‏}‏ ل ‏{‏أزواجاً‏}‏ ويجوز أن يكون نعتاً للنبات، يقال‏:‏ أمر شَتٌّ أي متفرّق، وشتّ الأمر شتاً وشتاتاً تفرّق، واستشتّ مثله، والشتيت المتفرّق‏.‏ قال رؤبة‏:‏

جاءت معاً وأطَّرقتْ شتيتاً *** وجملة‏:‏ ‏{‏كُلُواْ وارعوا‏}‏ في محل نصب على الحال بتقدير القول، أي قائلين لهم ذلك، والأمر للإباحة، يقال‏:‏ رعت الماشية الكلأ ورعاها صاحبها رعاية، أي أسامها وسرّحها يجيء لازماً ومتعدّياً‏.‏ والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذلك لآيات لأُوْلِى النهى‏}‏ إلى ما تقدّم ذكره في هذه الآيات، والنهى‏:‏ العقول جمع نهية، وخص ذوي النهى؛ لأنهم الذين يُنتهى إلى رأيهم‏.‏ وقيل‏:‏ لأنهم ينهون النفس عن القبائح، وهذا كله من موسى، احتجاج على فرعون في إثبات الصانع جواباً لقوله‏:‏ ‏{‏فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى‏}‏ والضمير في‏:‏ ‏{‏مِنْهَا خلقناكم‏}‏ وما بعده راجع إلى الأرض المذكورة سابقاً‏.‏ قال الزجاج وغيره‏:‏ يعني أن آدم خلق من الأرض وأولاده منه‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أن كل نطفة مخلوقة من التراب في ضمن خلق آدم؛ لأن كل فرد من أفراد البشر له حظ من خلقه ‏{‏وَفِيهَا‏}‏ أي في الأرض ‏{‏نُعِيدُكُمْ‏}‏ بعد الموت فتدفنون فيها وتتفرّق أجزاؤكم حتى تصير من جنس الأرض، وجاء بفي دون إلى؛ للدلالة على الاستقرار ‏{‏وَمِنْهَا‏}‏ أي من الأرض ‏{‏نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى‏}‏ أي بالبعث والنشور وتأليف الأجسام وردّ الأرواح إليها على ما كانت عليه قبل الموت، والتارة كالمرّة‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أريناه ءاياتنا كُلَّهَا‏}‏ أي أرينا فرعون وعرفناه آياتنا كلها، والمراد بالآيات هي‏:‏ الآيات التسع المذكورة في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى تِسْعَ ءايات‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 101‏]‏‏.‏ على أن الإضافة للعهد‏.‏ وقيل‏:‏ المراد‏:‏ جميع الآيات التي جاء بها موسى، والتي جاء بها غيره من الأنبياء، وأن موسى قد كان عرّفه جميع معجزاته ومعجزات سائر الأنبياء، والأوّل أولى، وقيل‏:‏ المراد بالآيات‏:‏ حجج الله سبحانه الدالة على توحيده‏.‏ ‏{‏فَكَذَّبَ وأبى‏}‏ أي كذب فرعون موسى وأبى عليه أن يجيبه إلى الإيمان، وهذا يدل على أن كفر فرعون كفر عناد؛ لأنه رأى الآيات وكذب بها كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 14‏]‏‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ ياموسى‏}‏ مستأنفة جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل‏:‏ فماذا قال فرعون بعد هذا‏؟‏ والهمزة للإنكار لما جاء به موسى من الآيات، أي جئت يا موسى لتوهم الناس بأنك نبيّ يجب عليهم اتباعك، والإيمان بما جئت به، حتى تتوصل بذلك الإيهام الذي هو شعبة من السحر إلى أن تغلب على أرضنا وتخرجنا منها‏.‏ وإنما ذكر الملعون الإخراج من الأرض؛ لتنفير قومه عن إجابة موسى، فإنه إذا وقع في أذهانهم وتقرّر في أفهامهم أن عاقبة إجابتهم لموسى الخروج من ديارهم وأوطانهم كانوا غير قابلين لكلامه ولا ناظرين في معجزاته ولا ملتفتين إلى ما يدعو إليه من الخير‏.‏

‏{‏فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مّثْلِهِ‏}‏ الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها واللام هي الموطئة للقسم، أي والله لنعارضنك بمثل ما جئت به من السحر، حتى يتبين للناس أن الذي جئت به سحر يقدر على مثله الساحر‏.‏ ‏{‏فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً‏}‏ هو مصدر، أي وعداً‏.‏ وقيل‏:‏ اسم مكان، أي اجعل لنا يوماً معلوماً، أو مكاناً معلوماً لا نخلفه‏.‏ قال القشيري‏:‏ والأظهر أنه مصدر، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لاَّ نُخْلِفُهُ‏}‏ أي لا نخلف ذلك الوعد‏.‏ والإخلاف أن تعد شيئاً ولا تنجزه‏.‏ قال الجوهري‏:‏ الميعاد‏:‏ المواعدة والوقت والموضع، وكذلك الموعد‏.‏ وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة والأعرج‏:‏ «لاَّ نُخْلِفُهُ» بالجزم على أنه جواب لقوله‏:‏ ‏{‏اجعل‏}‏‏.‏ وقرأ الباقون بالرفع على أنه صفة لموعداً، أي لا نخلف ذلك الوعد ‏{‏نَحْنُ وَلا أَنتَ‏}‏ وفوّض تعيين الموعد إلى موسى؛ إظهاراً لكمال اقتداره على الإتيان بمثل ما أتى به موسى‏.‏ وانتصاب‏:‏ ‏{‏مَكَاناً سُوًى‏}‏ بفعل مقدّر يدل عليه المصدر، أو على أنه بدل من موعد‏.‏ قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة‏:‏ «سوى» بضم السين، وقرأ الباقون بكسرها وهما لغتان‏.‏ واختار أبو عبيد وأبو حاتم كسر السين، لأنها اللغة العالية الفصيحة، والمراد‏:‏ مكاناً مستوياً‏.‏ وقيل‏:‏ مكاناً منصفاً عدلاً بيننا وبينك‏.‏ قال سيبويه‏:‏ يقال‏:‏ سِوًى وسُوًى، أي عدل، يعني عدلاً بين المكانين‏.‏ قال زهير‏:‏

أرونا خطة لا ضيم فيها *** يسوّى بيننا فيها السواء

قال أبو عبيدة والقتيبي‏:‏ معناه مكاناً وسطاً بين الفريقين، وأنشد أبو عبيدة لموسى بن جابر الحنفي‏:‏

وجدنا أبانا كان حلّ ببلدة *** سوّى بين قيس غيلان والفزر

والفزر‏:‏ سعد بن زيد مناة‏.‏ ثم واعده موسى بوقت معلوم فقَال ‏{‏مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة‏}‏ قال مجاهد وقتادة ومقاتل والسديّ‏:‏ كان ذلك يوم عيد يتزينون فيه‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ كان ذلك يوم عاشوراء‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يوم السبت‏.‏ وقيل‏:‏ يوم النيروز‏.‏ وقيل‏:‏ يوم كسر الخليج‏.‏ وقرأ الحسن والأعمش وعيسى الثقفي والسلمي وهبيرة عن حفص‏:‏ «يوم الزينة» بالنصب، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو، أي في يوم الزينة إنجاز موعدنا، وقرأ الباقون بالرفع على أنه خبر موعدكم، وإنما جعل الميعاد زماناً بعد أن طلب منه فرعون أن يكون مكاناً سوى؛ لأن يوم الزينة يدلّ على مكان مشهور يجتمع فيه الناس ذلك اليوم، أو على تقدير مضاف محذوف، أي موعدكم مكان يوم الزينة‏.‏

‏{‏وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى‏}‏ معطوف على ‏{‏يوم الزينة‏}‏ فيكون في محل رفع، أو على ‏{‏الزينة‏}‏ فيكون في محل جرّ، يعني ضحى ذلك اليوم‏.‏ والمراد بالناس‏:‏ أهل مصر‏.‏ والمعنى‏:‏ يحشرون إلى العيد وقت الضحى، وينظرون في أمر موسى وفرعون‏.‏ قال الفراء‏:‏ المعنى إذا رأيت الناس يحشرون من كل ناحية ضحى فذلك الموعد‏.‏

قال‏:‏ وجرت عادتهم بحشر الناس في ذلك اليوم‏.‏ والضحى قال الجوهري‏:‏ ضحوة النهار بعد طلوع الشمس ثم بعده الضحى، وهو حين تشرق الشمس‏.‏ وخص الضحى؛ لأنه أوّل النهار، فإذا امتدّ الأمر بينهما كان في النهار متسع‏.‏ وقرأ ابن مسعود والجحدري‏:‏ «وأن يحشر» على البناء للفاعل، أي وأن يحشر الله الناس ضحى‏.‏ وروي عن الجحدري أنه قرأ‏:‏ «وأن نحشر» بالنون وقرأ بعض القرّاء بالتاء الفوقية، أي وأن تحشر أنت يا فرعون، وقرأ الباقون بالتحتية على البناء للمفعول‏.‏

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إننا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا‏}‏ قال‏:‏ يعجل ‏{‏أَوْ أَن يطغى‏}‏ قال‏:‏ يعتدي‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله‏:‏ ‏{‏أَسْمَعُ وأرى‏}‏ قال‏:‏ أسمع ما يقول وأرى ما يجاوبكما به، فأوحي إليكما فتجاوبانه‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال‏:‏ لما بعث الله موسى إلى فرعون قال‏:‏ ربّ أي شيء أقول‏؟‏ قال‏:‏ قل أهيا شراهيا‏.‏ قال الأعمش‏:‏ تفسير ذلك الحيّ قبل كل شيء، والحيّ بعد كل شيء‏.‏ وجوّد السيوطي إسناده، وسبقه إلى تجويد إسناده ابن كثير في تفسيره‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏على مَن كَذَّبَ وتولى‏}‏ قال‏:‏ كذب بكتاب الله وتولى عن طاعة الله‏.‏ وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏أعطى كُلَّ شَئ خَلْقَهُ‏}‏ قال‏:‏ خلق لكل شيء زوجه ‏{‏ثُمَّ هدى‏}‏ قال‏:‏ هداه لمنكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لاَّ يَضِلُّ رَبّي‏}‏ قال‏:‏ لا يخطئ‏.‏

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏مّن نبات شتى‏}‏ قال‏:‏ مختلف‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏لأُوْلِي النهى‏}‏ قال‏:‏ لأولي التقى‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه ‏{‏لأُوْلِي النهى‏}‏ قال‏:‏ لأولي الحجا والعقل‏.‏ وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال‏:‏ إن الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذرّه على النطفة، فيخلق من التراب ومن النطفة، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏مِنْهَا خلقناكم وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ‏}‏‏.‏ وأخرج أحمد والحاكم عن أبي أمامة قال‏:‏ لما وضعت أمّ كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «‏{‏مِنْهَا خلقناكم وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى‏}‏ بسم الله، وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله» وفي حديث في السنن‏:‏ «نه أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر وقال‏:‏ ‏{‏مِنْهَا خلقناكم‏}‏ ثم أخرى وقال‏:‏ ‏{‏وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ‏}‏ ثم أخرى وقال‏:‏ ‏{‏وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى‏}‏» وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة‏}‏ قال‏:‏ يوم عاشوراء‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن ابن عمرو نحوه‏.‏